يبدو مسرح البيت الأبيض هو الأكثر جاذبية في عروض العالم، ليس لأن أميركا القوة العظمى المتفرّدة بقرار العالم سياسياً واقتصادياً، بل لأنها أيضاً الأكثر إدهاشاً. فهي عالم هوليوود السينمائي من قبل ومن بعد، وما الدنيا بحسب العرف الأميركي سوى "مسرح كبير"، كما قال يوسف وهبي منذ زمن بعيد.
لذا، يتابع العالم السباق الرئاسي فيها وكأنه جزء من الولايات المتحدة: تجد مواطناً طحنته الحرب عندنا قلقاً على واشنطن، وكأنه مسؤول عن أمن الناس، لا إنساناً مرمياً على قارعة عالم بعيد متخم بالجوع والخيبات.
أتابع القنوات العربية قبل الأجنبية، وأجد متأنقين كُثراً يهدرون طاقاتهم ووقتنا في تفاصيل صراع انتخابات هي أقرب إلى فيلم معلن نهايته! عندما كان قبل أسابيع سعير الحملة حول بناء عالم جديد تحكمه واشنطن، وهو يموج بغضب الشباب وإضراب الجامعات، وبملامح ثورة شبابية تهدّد النظام العالمي كله، وليس أميركا وحدها، كانت "المناقرة" في سباق البيت الأبيض بين ديكين هرمين، هما دونالد ترامب وجو بايدن، ظهرا عجوزين خارج إمكانات المرحلة.
وتباهى ترامب على رئيسه بايدن بأنه أقل من الثمانين بعام، وأكثر قدرة على صعود درجات المسرح، ويعرف كيف يميّز مخارج الحروف لا الوجوه! وتلك إحدى مهازل السينما الأميركية لا مباهجها، ولم ينقذها سيناريو قديم لفيلم أقدم حول تسخين المشهد ورفع وتيرة الحماسة بإصابة أذن ترامب اليمنى برصاصة، قيل إنها لشاب لا ملامح له ولم يحكِ أحد عن دافعه. ثم ظهر ترامب بعد يومين وقد وضع القطن الأبيض في الأذن اليمنى.
ولا تسأل عن معجزات السينما، فأنت في هوليوود. لكن الأهم بالنسبة إلينا هو أن العالم الإسلامي تنفّس الصعداء، خشية أن يكون أحد أجداد الشاب مسلماً ليثبّت تهمة الإرهاب الأبدية. جاء أنه يهودي، فبلع إعلام هوليوود لسانه، وإلا لكانت المشانق منصوبة لمليار مسلم.
لكن البارز حتى الساعة في صراع هوليوود حول البيت الأبيض هو ظهور عرض أميركى هزيل، حيث شاخ النظام، لذا قيل لبايدن إن إنقاذ الموقف وإعادة الهيبة إلى المسار هو إعلان انسحابٍ كان متوقعاً، فكان ذاك إنقاذاً لعرض البهجة. وتحقق الأمر حيث دبّت روح الإثارة أكثر من مسرحيات محاولة الاغتيال، إذ تبدو حركة المسرح فى انسحاب بايدن أكثر "حرفنةً"، فهي ضربة ثلاثية الأبعاد. البعد الأول: تعيد للسباق هيبته، وتؤكّد أن المؤسسة بخير، والثاني: يخرج بايدن من الحلبة بما تبقّى من كرامة كونه حصاناً هرماً في سباق متعثر، والثالثة، وهي الأهم: إزاحة ترامب من المقدمة، حيث تغدو الأمور واضحة، إنها للسيدة كامالا هاريس، وليس بسبب قدرات السيدة الأولى السياسية المتواضعة، بل لأن العالم لا يتحمّل تقلّبات ترامب. كما أن بايدن لا يمكنه إكمال أربعة أشهر أخرى ناهيك عن أربع سنوات وكل هذا الجنون في العالم.
لذا، فإن هاريس، الأقل خبرة سياسية، الآتية من فضاء القانون وعمل المدّعى العام، أي الأقل احتكاكاً بعالم الإعلام والسياسة، ستكون الشخصية الأكثر قبولاً لدى صنّاع الرؤساء لتعبُر بالأمور المرحلة الصعبة التى يمرّ فيها العالم، وحتى يتسنّى إعادة ترتيب المشهد من جنون نتنياهو وعنصريته، إلى تخبّط أوروبا، وتربّص الصين بمقعد القيادة، إلى حرب أوكرانيا، والأهم هو هذه الحرائق التى لا تتوقف في الشرق الأوسط. فتبدو هاريس بضحكتها المجلجلة، وحضورها العادى، ملائمة للمؤسسة العميقة، لتعيد المؤسسات "عملية ضبط المصنع" عالمياً في لعبة تكاد تفقد واشنطن كثيراً من مفاصلها الآن. ولا وقت للمزيد من الخسائر.
الآن، مفصل العبث موجود في الشرق الأوسط، حيث آخر محطات الجنون والفصل العنصري. ففي اللحظة التي يحتاج فيها العالم إلى صوت العقل والضمير، وإلى إيقاف حرب "الكيان الإسرائيلى" على غزة، يطلّ نتنياهو بعنصريته في كونغرس أميركا ليعيده "سيركاً" للتصفيق والصفاقة.
ولن تستقيم الأمور في البيت الأبيض على ما يبدو بسهولة خلال ما تبقّى من السنة، بعد تهريج التصفيق، بل قد تستقيم بمعجزة عبر إفاقة أمّة عربية هنا، في هذا الشرق الأوسط، عليها أن توقف حروبها بنفسها، وتعيد ضبط بوصلة مستقبلها بحسب تطلعات جيل يشيب قبل الأوان، يريدها أن تفيق لنخرج من نفق هوليوودي صار مبتذلاً وعديم البهجة.