ترتفع حرارة الصراعات في حوض النيل، على وقع أطماع بعض دوله في الاستئثار بمياهه، والتدخلات الخارجية والتغير المناخي، وبدخول اتفاقية عنتيبي حيز التنفيذ، رغم معارضة مصر والسودان، ما يفتح باباً جديداً لنزاعات مائية حول حقوق كل الأطراف في مياه النيل. بعض دول الحوض لا تحتاج مياه النهر، لديها فوائض أمطار وأنهار أخرى، بينما تعتمد مصر كلياً على النيل في تلبية احتياجاتها، تتمسك بحقوقها التاريخية والمكتسبة، وهي حقوق تلغيها "اتفاقية عنتيبي" التى تقف وراءها معطيات الجغرافيا، وألاعيب السياسة. وما بين "عراك" التاريخ والجغرافيا تبدو دولتا المصب في وضع حرج للغاية، بانتظار الغوث، أو المخرج من المحنة، برغم أن العصر ليس عصر المعجزات.
اتفاقية عنتيبي
قادت إثيوبيا دول الحوض بجدارة للتوقيع على اتفاقية عنتيبي، ثم بدأت عملية التصديق على اتفاقية الإطار الشامل في حزيران (يونيو) 2013، لتدخل الاتفاقية حيز التنفيذ يوم 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، بعدما ظلت جوبا مترددة في التوقيع 14 عاماً، حتى رضخت لضغوط أديس أبابا بالتصديق على الاتفاقية الإطارية للتعاون بشأن نهر النيل (اتفاقية عنتيبي) ما يشكل تحدياً لمطالبات مصر والسودان بحصصها في مياه النيل المقررة في معاهدات 1902 و1929 و1959.
وفي ظل الحرب الدائرة في السودان، تزداد الأمور تعقيداً. يؤثر النزاع على قدرة السودان على المشاركة بفعالية في التفاوض أو أي جهود أخرى للحفاظ على حقوقه المائية. تعتقد القاهرة والخرطوم أن أديس أبابا لن تفوت أي فرصة لقيادة بقية دول الحوض للإضرار بحصصهما التاريخية في النيل، وتحكم دول المنابع بالنهر عن طريق إنشاء سلسلة من السدود، دون تنسيق مع دولتي المصب، مثلما فعلت في "سد النهضة" الذي يطلق عليه المصريون "سد الخراب"، واستمر التفاوض بين الدول الثلاث أكثر من عشر سنوات دون اتفاق، على معنى مصطلحات: "الضرر الكبير" و"الاستخدام المنصف والمعقول"، وفشلت فشلاً ذريعاً، مع التعنت الإثيوبي، والأزمات المتلاحقة في دولتي المصب.
تؤمن مصر بأن لها حقوقاً تاريخية "مكتسبة" في مياه النيل؛ تتدفق إليها مياه النهر منذ بدء وجود الإنسانية، حتى ذاعت مقولة المؤرخ اليوناني هيرودوت: "مصر هبة النيل"، لولا النيل ما كانت مصر إلا صحراء جرداء، وما قامت على أرضها أعرق الحضارات وأعظمها في العالم القديم. اعتقاد يشاركها فيه السودان، بينما تطالب إثيوبيا وعدد من دول الحوض بالحقوق الجغرافية؛ تتدفق منها مياه النهر إلى دولتي المصب، وترفض الأطروحات التي تراعي مصالحهما المائية وتتجنب إحداث ضرر جسيم لهما، ومن ثمّ تهديد الأمن المائي لمصر والسودان.
ضياع الحقوق
تخشى القاهرة والخرطوم ضياع "حقوقهما المكتسبة" في مياه النيل؛ لذلك دأبت العاصمتان على رفض التوقيع على الاتفاقية، اعترضا على صياغة المادة 14 (ب) التي تشير إلى دول حوض النيل: "ولذلك نتفق بروح التعاون على: . . . (ب) عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي لأي دولة أخرى في حوض النيل". اقترحت مصر والسودان صياغة بديلة للمادة 14 (ب): "وبالتالي تتفق دول حوض النيل، بروح التعاون على: . . . (ب) عدم التأثير بشكل كبير على الأمن المائي والاستخدامات الحالية وحقوق أي دولة أخرى في حوض النيل".
بدورها رفضت دول المنبع هذه الصياغة؛ جادلت بأن صياغة "الاستخدامات والحقوق الحالية" من شأنها أن ترسخ مفهوم الحقوق التاريخية السابقة، التي أنشأتها اتفاقيات مياه النيل وتحتفظ بشكل فعال بأوضاع عدم المساواة في تخصيص واستخدام الموارد المائية في حوض النيل منذ عشرينات القرن الماضي.
وتوقع الدكتور نصر علام وزير الري المصري الأسبق ألا تتخلى مصر والسودان عن حصتهما من المياه التي ضمنتها لها اتفاقيات تاريخية معترف بها إقليمياً ودولياً، لصالح "اتفاقية عنتيبي" التي تلغي تلك الحقوق، ولا تخلو من الأجندة والصراع السياسي، وأكد أن تصديق جنوب السودان على الاتفاقية ودخولها حيز التنفيذ، لا يعطي الاتفاقية الشرعية القانونية المطلوبة.
ما يحدث في حوض النيل ربما يزيد حدة الخلافات بين دول المنابع ودولتي المصب، على نحو خطير، إذ تجدها الأولى فرصة سانحة لفرض النفوذ والهيمنة على مياه النيل، بإرادة منفردة مرة واحدة وإلى الأبد. مصر تعاني مشكلات من كل صوب، والسودان يعيش أكبر كارثة إنسانية في العالم بسبب الحرب الأهلية الدائرة بين جنباته. "السيناريو الإثيوبي" يشجع دول المنابع، يعطيها القدوة، ببناء سد النهضة واستمرار عمليات التخزين دون اتفاق أو حتى اكتراث بالوساطات الإقليمية والدولية، ما يعنى إمكانية تحول مياه النيل بؤرة توتر بين أقطاره، مع توسع الخلافات بانضمام دول أخرى لاتفاقية عنتيبي، وقيامها بإنشاء سدود ومشروعات مائية على النيل؛ تحوي الاتفاقية بنداً يمنح دول المنبع حق إقامة المشروعات، دون الرجوع أو التوافق مع دولتي المصب، أو حتى إخطارهما مسبقاً.
هذا أو الحرب
يرى الدكتور حمدي حسن خبير الشؤون الإفريقية وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن الصراع على مياه النيل يعد حالياً أحد أهم أسباب الحروب بالوكالة في المنطقة، ويسهم في عدم قدرة هذه البلدان على التعاون أو التفاوض بشأن شروط منصفة للجميع؛ كل منها يعتقد بأن لها الحق في غالبية حصص مياهه؛ وبالتالي احتمال تصاعد النزاع إلى مستويات شبه عنيفة أو عنيفة.
من دون بذل جهود كبيرة لتعزيز إدارة المياه والتعاون الإقليمي، مع وجود وسطاء دوليين لتعزيز الحوار وتحقيق تسوية عادلة، يتفاقم خطر نشوب صراعات المياه، تحتاج دول النيل حالياً لتوافق مبدئي على آلية للوساطة قابلة للتطبيق، تشمل إحالة بعض المسائل المحددة إلى محكمة العدل الدولية أو التحكيم الدولي لحل النزاعات المتعلقة بتوزيع المياه. بدون ذلك السبيل الحرب آتية لا محالة، وهي لم تكن بعيدة في يوم من الأيام. تعاني غالبية دول الحوض حروباً أهلية وخلافات سياسية بشكل أو بآخر، يكفي أن نتذكر أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تساءل - عقب إفشال إثيوبيا جهود الوساطة الأميركية حول سد النهضة مع مصر والسودان - عن أسباب عزوف الجيش المصري عن توجيه ضربة للسد الإثيوبي، ما اعتبر ضوءاً أخضر أميركياً ساعتها للقيام بالهجوم، لكن القاهرة تريثت.
يحتاج حوض النيل إلى تعزيز التعاون الإقليمي من خلال مشروعات مشتركة لإدارة الموارد المائية بكفاءة، لضمان استخدام عادل لموارد النهر يخدم مصالح جميع الدول، دون أطماع أو مغالبة.
لكن ماذا لو لم يتحقق ذلك، وما الذي يمنعه من التحقق وما هي نتائجه؟
ذاك حديث آخر...