أضحكني جاري الجنبلاطي حين علّق على إصرار إيران رد الصاع صاعين لإسرائيل بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي في "حماس" إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية. قال بنبرة الواثق: "من يسمع نحيبهم على مصرع هذا الرجل في غرفة نومه بطهران، يظن أن علي خامنئي سلطان باشا أطرش جديد، وإسماعيل هنية أدهم خنجر آخر، والردّ المنتظر هو النسخة الفارسية من ثورة 1925 السورية... فلا خامنئي باشا، ولا هنية أدهم، ولا الإيراني درزي".
ردّني مقال جاري هذا إلى مقام "طوفان الأقصى". ضربت "حماس" قلب إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فانهارت كل مداميك البناء الإسرائيل: الهيبة والتفوق والأمن الاستباقي والردع ومنطق الحرب على أرض العدو، وغيرها أيضاً. وتابعت هذه المداميك انهيارها مع غزوة غزة المستمرة حتى الساعة، وما تبعها من قتل نحو 40 ألفاً من فلسطينيي القطاع، يضافون إلى عشرات الآلاف ما زالوا مدفونين منذ أكثر من 300 يوم تحت أطنان من الأنقاض.
ومن يسأل عن سبب هذا الإصرار الإسرائيلي على قتل الغزيين، بمبرر أو من دونه، يجد أنه منطق فائض القوة الذي انخدش حياؤه في "طوفان الأقصى"، ولا يسلم الشرف العسكري الإسرائيلي الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه هذا الدم كله، خصوصاً بعد تأليف لجنة تحقيق لتحديد من قصّر في صون الأمن الإسرائيلي.
واليوم، فيما تستعد إسرائيل لما تقول إنه ردّ طهران على تحرّش تل أبيب بها وبضيافتها حين قتلت هنية في دار الضيافة بالعاصمة الإيرانية، وعلى الرغم من تراجع منسوب الغضب الإيراني والزخم الانتقامي في طهران، تخرج تل ابيب في كل ساعة بنبأ يهوّل مما يعدّه لها الإيرانيون وفصائلهم كي تستعيد بعضاً مما فقدته من فائض قوتها. فهي تعرف، والعالم يعرف، أن الردّ – إذا أتى – قد يتجاوز قليلاً فولكلور ضربة الساعات التسعة في 13 نيسان (أبريل) الماضي، انتقاماً لخراب القنصلية في الشام.
والشيء "اللبناني" بالشيء "الإسرائيلي" يذكر. فكما يجني فائض القوة على إسرائيل، ويؤدي بها إلى اتهامها بإبادة الفلسطينيين جماعياً في أرفع محكمة أممية يرأسها اللبناني نواف سلام، كذلك يجني فائض القوة على "حزب الله".
لا مفر من الاعتراف فعلياً بأن السيّد حسن نصرالله، أمين عام "حزب الله"، زرع في الطائفة الشيعية بلبنان "زهواً" لم يكن. فتاريخياً، كان أهل الجنوب والبقاع محرومين، وشكلوا منذ خمسينيات القرن الماضي الخزان البشري للأحزاب الأيديولوجية، خصوصاً الحزب الشيوعي اللبناني (كانت بلدة كفررمان الجنوبية شيوعية من بابها إلى محرابها، حتى عرفت باسم "كفرموسكو"). وانقسم عدد كبير من النخب في هاتين المحافظتين بين بعث حافظ الأسد وبعث صدام حسين، لكنها توحدت حول فكرة الوحدة العربية. ونزح كثيرون في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من قرى الجنوب والبقاع التي لم تشملها أي خطة إنماء متوازن حكومية، ونسجوا حول العاصمة بيروت "أحزمة بؤس" ما زالت آثارها باقية وتتمدد في أكثر من منطقة.
في عام 1985، ولد "حزب الله" من رحم ثورة 1979 الإسلامية في إيران، واستأثر تدريجاً بالساحة الجنوبية وحده، فتراجع الفكر العقائدي العلماني لصالح الفكر الديني ونظرية ولاية الفقيه، وترسخت مرجعية "قم" بدلاً من مرجعية جبل عامل.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في 25 أيار (مايو) 2000 من دون أي ترتيبات أمنية، بدأت بذرة فائض القوة في النفوس هناك تنمو وتكبر. اليوم، صار هذا الفائض نقمة على أصحابه، إذ ساهم في قتل العشرات من مقاتلي "حزب الله" وقياداته، آخرهم فؤاد شكر الذي وصفه نصر الله بأنه "دماغ حزب الله". فما يودي بهؤلاء برأيي هو إحساسهم بـ"فائض قوة" يفوق "فائض قوة" إسرائيل نفسها: "وهل يجرؤون على قتلي وأنا في قلب المربع الأمني بحارة حريك، وجدار بيتي هو نفسه جدار شورى حزب الله؟". نعم، يجرؤون جداً.. وقد فعلوها، وقتلوك يا "سيد محسن"، فسمعنا السيد حسن نصر الله يؤبنك، فيما ترتعد بيروت من دوي اختراق المقاتلات الإسرائيلية جدار الصوت.
وهكذا، نعلق نحن اللبنانيين البؤساء بين فائض قوتين.. لا حول لنا فيهما ولا قوة، ولا نريد من كل ذلك إلا فائض فرج... من القوتين!