يطفئ الماء النار، لكنه يمكن أن يشعل الحرب؛ ذات يوم توقع الدكتور بطرس غالي وزير الشؤون الخارجية المصري وأمين عام الأمم المتحدة الأسبق أن تكون المياه سبباً للحرب المقبلة في الشّرق الأوسط. نبوءة تبدو في طريقها كي تصبح واقعاً في المنطقة، ما لم تحدث مفاجأة ما. إنه واقع يُذكر بمقولة للكاتب الأميركي الساخر مارك توين: "الويسكي للشرب... والمياه للقتال"!
النهر والصراعات
المثال الساطع في ذلك هو نهر النيل، شريان طبيعي لإمدادات المياه والكهرباء لشعوب إحدى عشرة دولة، من المنبع إلى المصب، تتفاوت في مساهماتها في مياه النهر، ومدى احتياجها إلى مياهه. بعض دول المنابع لديها 12 حوضاً نهرياً، ولا تحتاج أساساً لمياه الأنهار، بالنظر إلى غزارة مياه الأمطار. بعضها يعتمد على النهر جزئياً، بينما تنفرد مصر بأنها تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تحصل على كل مياهها من خارج حدودها، تعتمد على النيل في تلبية احتياجات شعبها، في الشرب والزراعة والصناعة وغيرها، بحصة 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، لا تمثل سوى 3% من إيرادات النيل البالغة 1600 مليار متر.
أغلب دول الحوض ليست بحاجة إلى مياه النهر، بينما تعاني مصر الشح المائي، نصيب الفرد 500 متر مكعب، وهو نصف الحد الأدنى للفقر المائي عالمياً. النيل لمصر شريان الحياة وسر الوجود، حتى أن المصريين القدماء (الفراعنة) عبدوا النهر وقدموا له القرابين. يمثل سريان النيل "قدس أقداس" الأمن القومي المصري والسوداني، لذلك توسعت مصر جنوباً في منابع النيل طوال القرون الماضية لضمان جريان الحياة إلى أراضيها. ظل تدفق النهر كعهده طوال آلاف السنين، لكن هذا تغير الآن، وإلى الأبد. تكاد إثيوبيا تنتهي من بناء سد النهضة على النيل الأزرق، وتعتزم بناء "سلسلة سدود" بسعة 200 مليار، ما يحجب إيراد النيل الأزرق،عند اكتمالها، 4 سنوات كاملة دون قطرة واحدة، إلى السودان ومصر، ناهيك عن سنوات الجفاف؛ هذا قد يثير خلافات حادة بين إثيوبيا ودولتي المصب، أو يشعل أولى حروب المياه بالمنطقة.
ما يرجح احتمالات التوتر والصراع هو دخول اتفاقية عنتيبي حيز التنفيذ 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، بعد تصديق برلمان جنوب السودان عليها، وشروعها في الإعداد لبناء سد كبير على النيل الأبيض، وهو ما يشجع دولاً أخرى في حوض النيل على بناء مزيد من السدود الضخمة على النهر، بدعم من دول إقليمية وقوى عالمية ومنظمات تمويل، دون موافقة دولتي المصب، من أجل تسليع المياه وبيعها لمن يدفع، بغض النظر عما تعتبره مصر والسودان "حقوقاً مكتسبة" في مياه النهر. تلك الحقوق تلغيها "اتفاقية عنتيبي".
تسليع المياه
فهل بات "تسليع مياه النيل" وبيعها لمن يشتري بعيداً من دول المصب أمراً ممكناً؟
يبدو الأمر في طريقه للتنفيذ الفعلي؛ أطلق البنك الدولي مبدأ "تسليع المياه"، وسبق لكينيا وبريطانيا توقيع اتفاقية لبناء 3 سدود، أهمها "الشلال العظيم"، لتخزين المياه وبيعها. سيكون هذا السد أول نموذج إفريقي يطبق مبدأ بيع مياه الأنهار، وبالمثل وقعت الصين اتفاقاً مماثلاً مع جنوب السودان، لإنشاء "بنك" للمياه بعد تحويل مجرى النيل الأبيض، بمشاركة كينيا وبوروندي وأوغندا ورواندا وتنزانيا؛ ضمن حزمة من السدود التي سيتوالى بناؤها على روافد النيل الأبيض المتجهة للسودان ثم مصر. الهدف هو تأسيس "بنك المياه الإفريقي"؛ من أجل بيع المياه لدولة المصب أو لمن يطلب، بما يتماشى مع أجندة البنك الدولي في "تسليع المياه" وبيعها بالبورصات العالمية شأنها شأن أي شيء يُباع ويشترى.
بدعم دول إقليمية وقوى دولية، مياه النيل "قابلة للاشتعال" توترات وحروباً، وهي لم تغب عن صراع القوى عبر التاريخ. استشهد الكاتب البريطاني روجر بويز في مقاله بصحيفة "تايمز" بأن الخلافات حول طريقة تخصيص مياه الأنهار الكبرى في العالم - النيل ودجلة والفرات، مثلاً - كانت مستعرة منذ قرون، لكنها لم تصل إلى الحرب الشاملة، وألمح إلى أن الدول الضعيفة في جميع أنحاء العالم تقترب من الانهيار، عندما تفقد السيطرة على الأسس الثلاثة: الماء والأوكسجين والخبز، إذ إن هذه هي الطريقة التي يقاس بها أداء الحكومة. فلا دولة في العالم على استعداد للتضحية بمتر واحد من مياهها، حتى لو وصل الأمر لتحريك الجيوش وخوض الحروب، بسبب ندرة المياه وتسابق بعض الدول على إقامة السدود، من أجل تحقيق مكاسب معينة قد تضر بدول الجوار.
السلام أو الحرب
إن رغبة بعض دول المنابع في فرض أقصى قدر من الهيمنة على النيل تعجّل احتمال تطور الخلاف إلى تصعيد عسكري. صرح مسؤولون مصريون علناً بأن إثيوبيا إذا اتخذت أي إجراء لمنع تدفق مياه النيل فلن يكون هناك بديل سوى استخدام القوة، لكن ماذا تفعل مصر والسودان لو تجمعت إرادة دول المنابع على بناء السدود وبيع المياه بمساندة إقليمية ودولية؟ لا شك أن هذا سيكون أكبر كابوس على مرّ تاريخ القاهرة والخرطوم. الأسوأ هو أن تلك الحروب تدوم أحيانا عشرات السنوات، تحت شعار "قطرة المياه أغلى من قطرة الدم"؛ خاصة أن الأمم المتحدة تتوقع أن تعاني 30 دولة ندرة المياه في 2025 مقارنة بـ 20 دولة فقط في 1990، من بينها 18 دولة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا. أزمة مياه عالمية تلوح في الأفق قد تجفف أنهاراً رئيسية.
يؤكد المفكر الهندي براهما تشيلاني، في كتابه "المياه والسلام والحرب: مجابهة أزمة المياه العالمية" أن أي معاهدة للتعاون المائي العابر للحدود لا يمكن لها الاستمرار إذا لم تتعايش الدول المتشاطئة وظلت متخاصمة، مطالباً بتنمية تكنولوجيات مياه نظيفة أكثر كفاءة تكلفة وطاقة. مع كل ما تقدم، يظل هناك أمل في أن يعيش العالم في سلام حول المياه والموارد الطبيعية الأخرى. فالعقل الإنساني مبتكِر، والتاريخ عبارة عن تقرير عن كيف نجحت الحضارة الإنسانية في التغلب على مواقف رهيبة، من خلال الجمع بين الإرادة السياسية والوسائل التكنولوجية الجديدة والقدرة المستمرة على التكيف، والإدارة المائية الفطنة تستطيع أن تساعد في تطوير تكيف معقول، وبالتالي قد تفتح الطريق لعالم أكثر سلماً، من خلال اتخاذ قرارات تستند إلى العلم والمعرفة، وإيجاد طرق للحد من الندرة، واستقطاب فواقد المياه، ما يجعل مياه النيل تكفي الجميع وتفيض، لو توارت أطماع السيطرة والتدخلات الخارجية؛ ما يحول دون قرع طبول "حروب المياه" في حوض النيل.