ألدو نيكوسيا
أنعى لكم يا أصدقائي اللغة القديمة/ والكتب القديمة/ أنعى لكم / كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة/ ومفردات العهر والهجاء والشتيمة/ أنعى لكم.. أنعى لكم/ نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة.
هذه الأبيات التي يستهلّ بها نزار قباني قصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة" أثارت ولا تزال تثير جدلاً واسعاً في الشرق الأوسط إبان نكسة 1967. فمؤخّراً، سخر أحد النقاد من الشاعر السوري مستنتجاً من أبياته أن اللغة القديمة والكتب القديمة "كانت من أسباب الهزيمة وضحاياها"، وأن "هذه تنفيسات ذاتية لشاعر (...) يجيد هدم كل شيء، وليست تشخيصاً سليماً خالياً من العشوائية والانفعالات الموقتة (...) أو ربما هي أحد مظاهر الداء الوبيل الذي يسكن كثيراً من الشعراء، كما جاء في سورة الشعراء في القرآن الكريم «… ألم ترَ أنهم في كل واد يهيمون (225)، وأنهم يقولون ما لا يفعلون(226)»". (ناصر يحيى، نزار قباني في متاهة هزيمة حزيران! | أخبار ثقافة | الجزيرة نت) (aljazeera.net))
إلى الآن، تراودني هذه الأبيات ميقظة ذكرياتي الخاصة لمّا كنت اشتغل مترجماً وترجماناً شفوياً من العربية إلى الإيطالية والعكس، في مكتب حكومي يُعنى بمسائل الهجرة السرّية واللجوء الإنساني أو السياسي في جنوب إيطاليا، ومترجماً مستقلاً في المحاكم المحلية في محاكمات تخصّ قضايا المهاجرين الناطقين بالعربية، في التسعينات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
إذاً، ما هي علاقة أبيات قباني المذكورة بالترجمة؟
خلال تجربتي الشخصية في مهنة الترجمة، تذوقت مرارة النكسات والوكسات الشخصية فتساءلت: أصار ذلك بسبب "الكلام المثقوب" وعدم إفادة "اللغة القديمة" بالنسبة لي في شغلي ترجماناً، أم بسبب عقلي المثقوب؟
لقد تضافرت عوامل عديدة في إضعاف أدائي كترجمان. أولاً، لم توفّر لي دراستي الاستشراقية في جامعة نابولي أي تكوين لغوي باستثناء الفصحى (كانت العبارة المفضّلة لدى أساتذتي: "لا تقلق. ستتعلّم اللهجات العربية عندما تزور العالم العربي"، وفعلاً كنت قد زرت بعض البلدان).
ثانياً، الوزارات الإيطالية التي تنتدب مترجمين متخصصين بالفصحى فقط، تجهل أو بالأحرى تتجاهل الواقع اللغوي المعقّد الذي يفرض علينا كمتعلمي العربية كلغة ثانية، إلماماً شاملاً بكل اللهجات العربية أو معظمها. وأعني هنا الهوة العميقة بين الدارجات أو اللهجات واللغة المعيارية الرسمية.
بسبب تجاهل متطلبات الترجمان، المتخصص في الترجمة الشفوية، في الاضطلاع بمثل هذه المهمّات الحساسة، وفي ضوء نقص القواميس أو أي أداة تعليمية ملائمة في تلك الفترة (الوضع الآن أفضل بكثير)، فكيف نتوقع منه أن يتقن اللهجات العربية، وأن يفهم كلام المهاجرين والناس العاديين، وأن يشرح للسلطات والمؤسسات الإيطالية بشكل صحيح شهاداتهم الشفوية عن تجاربهم الخطرة في الحياة؟ كم مرّة عليه أن يبرر نفسه، أمام قاضٍ في المحكمة، أو في سجن، أو أمام طبيب في المستشفى، أو مساعد اجتماعي في مركز إيواء، قائلاً لهم إن الشخص الذي يجب أن نترجم كلامه يستعمل كلاماً لم يدرسه في الجامعة ولم يخضع للاختبار من أجل تعيينه في المكتب الحكومي؟
لذا، يصبح ترجمان العربية غير العربي أول ضحية للازدواجية اللغوية في الواقع العربي، من المحيط إلى الخليج، في حين أن أصدقاءك العرب يستخفون بالأمر، مدّعين أن اللهجات لا تبتعد كثيراً من الفصحى.
لكن، إن كنت مترجماً تجلس أمام مكتب لتتعامل مع قصائد أو مجلات أو خطب رنانة أو تفك رموز المخطوطات العربية، فحتى لو كان عليك أن تواجه صعوبات مختلفة، يمكنك على الأقل أن تستمهل في عملك، فلن تواجه أشخاصاً حقيقيين، مضطهدين ومعذبين ومحتقرين، من جهة، وموظفين، من جهة أخرى. ومن المحتمل أن يبدأ هؤلاء يشكّون في مهاراتك المهنية، إذا استمعوا إلى ترجمتك المتعاقبة القصيرة، على سبيل المثال، لمدة 15-20 ثانية، بعد دقيقة واحدة من حديث بالعربية من قبل المتكلم.
في سياق التساؤل نفسه المطروح في البداية، إذاً، ما ذنب اللغة في الهزائم السياسية الجيو-إستراتيجية وتعاسة مصائر الناس؟
لا أظن أن قباني كان ينوي القول إن اللغة سبب الهزائم و الويلات المتكرّرة. وإذا افترضنا أنها من ضحاياها، فماذا سيحلّ محلّ "اللغة القديمة" كي يتمكن من إطاحة القوى المهيمنة التي تفرض لغة "خشبية"، خالية من المشاعر، وبعيدة بشكل عام من هموم المتلقّي اليومية؟
في مقالة بعنوان "السياسة واللغة الإنكليزية"، كان جورج أورويل قد أشار إلى أن "اللغة والمصطلحات تتشوه بسبب تدهور التفكير، الذي يعود بدوره إلى الغموض المتزايد للتعبير اللغوي، وهذا كله يُعزى إلى تأثير السياسة، لأنها تتخذ الكلام طريقة من طرق الخداع" (سكينة سيدي حمو، لغة الخشب لمن لا يعرفها - جريدة سوس 24 الإلكترونية (souss24.com))
الترجمان هو أول من يعاني من العبارات الفارغة من المعنى، أي كليشيهات وعبارات اتسمّت بالصلافة والجمود. تتأكّل الكلمات كالأشياء بسبب الإفراط في استعمالها، فتصير بالية ولا يتأثر بها المتلقّون. وإذا اتفقنا مع ميشال فوكو على أن الكلمات ظلال الأشياء، تصبح هذه الظلال باهتة إلى درجة الاختفاء.
في الفيلم القصير "صوت الآخرين" (2023) للمخرجة الفرنسية الجزائرية فاطمة قاسي، نشاهد كيف تُنصح إحدى الترجمانات بالامتناع عن التعبير عن انفعالاتها خلال إلقاء اللاجئين شهاداتهم.
بحسب أحد المترجمين، تتطلّب قواعد الاحترافية الحياد وبرود الدم. أحياناً، تصير موهبة التعاطف مع الشخص الذي نترجم له ناقصة أو مخدّرة بسبب تكرار المهمّة.
يقترح الفيلم أن من أكبر التحدّيات التي تواجه الترجمان هو الوعي بضرورة ردّة فعله كناقل شهادات أبطال المآسي الإنسانية. فأحياناً، يحس بارتباك في نقل هذه الأحاسيس إلى الجهات الرسمية أو لجان الاعتراف بحالة اللجوء الإنساني أو جهات أخرى. بطبيعة الحال، روتينية الشغل والتكرار بدلاً من تعليم الحمار يجعله عديم الحساسية.
للغة البصرية فعالية أكبر مقارنة بالكلمة في نقل رسالة بأحسن وجه، ونشهد ذلك في الحرب الحالية على غزة. تحاول اسرائيل تصفية متعمدة لكل من يستطيع أن يوثق مجازرها البشعة في فلسطين.
تلفزات العالم الغربي المتصهينة بمعظم قنواتها لا تسمح بذلك، ووسائل التواصل (أي تواصل يا ترى؟) الاجتماعي تعرقل بث وانتشار مشاهد دامية تصور فيه أشلاء الجثث الفلسطينية الأبرياء، لأن من شأنها أن يتأثر بها المتفرج، فينفعل وينحاز لصالح فلسطين. لا شك في أنه في أذهان الناس، إذا لم تكن المجازر مصحوبة بالصور، فإنها ببساطة لا تحدث.
حتى الوصف بالكلمات لا يتأثر به أحد. صار الصحفي المصور ترجمان أشواك الشعب الفلسطيني أو غيره من الشعوب في حروب أخرى. لذلك، يصدّق معظم الجمهور الايطالي رواية الأحداث الأحادية الاتجاه في الحرب على غزة.
وفي هذا الإطار، هل تكفي الكلمات المنقولة من مترجم أن تنقش أو ترسم وضعاً بخطوط واضحة أو مقنعة، إلى درجة أن تجعل القارئ يتخذ موقفاً ملموساً؟
قد يحدث ذلك، لكننا نلاحظ أن القارئ كثيراً ما ينتقل من مرحلة الانفعال إلى مرحلة الفعل أو ردة الفعل، وكأنه يكتفي بالانفعال، ربما لتجنّب تعرّضه للقمع الحكومي المنحاز إلى الصهاينة.
كبشر، كلنا نشعر بأوجاع الآخر. لكن، ماذا بعد ذلك؟ هذا الشعور بالغضب ضدّ تواطؤ معظم حكومات العالم في إبادة الشعب الفلسطيني والرأفة بالضحايا له وظيفة تطهير النفوس والاكتفاء بتنفيس المشاعر.
إذاً، سنسمع ونقرأ تصريحات لرجل الشارع أو لزعماء دوليين أشبه بالشعراء الذين "يقولون ما لا يفعلون". كل شيء يبدأ وينتهي بطق حنك...
هل يصبح الكلام المثقوب أو غير المثقوب بديلاً عن الفعل؟ وهل يتحول المترجم إلى ناقل أشباح الأشياء والمفاهيم التي لا يقبل المرء فهمها؟