يعلم "حزب الله"، قبل غيره، أن مجريات حرب "طوفان الأقصى" فرضت عليه مساراً جديداً غير متوقع في مواجهة اسرائيل، بعد تسريبات عن نضوج تسوية تنهي حرب غزة وتمكن اسرائيل أيضاً من تقويض قدرة المحور على الردع بخرقها ما يُعرف بـ "قواعد الاشتباك" وكسر ما رُوج من توازن رعب وردع متبادل بدا انه غير متكافئ حتى الآن، ما يدفع "حزب الله" الى مجاراة الواقع بالبحث عن مخرج يعفيه من حرب أكبر، كرر مراراً أنه لا يريدها، لكن اسرائيل تفتش عنها متفلتة من اي ضوابط داخلية نظراً للاجماع الاسرائيلي الداخلي بضرورة ردع "حزب الله"، ومستغلة في الوقت نفسه مظلة عسكرية سياسية أميركية مستمرة من ادارة الرئيس جو بايدن المنهمكة بالانتخابات الرئاسية.
تحذيرات وضغوط الولايات المتحدة قد يجبر إيران على فصل ردها على إسرائيل عن رد التنظيمات الموالية لها على اغتيال رئيس حركة "حماس" اسماعيل هنية في طهران. هذا الأمر يتماهى مع اصرار اسرائيلي غير مسبوق على فصل المواجهة مع إيران وغزة عن المواجهة مع "حزب الله"، في محاولة للاستفراد به وفرط الحلقة الممتدة من طهران الى بيروت مروراً بصنعاء وبغداد ودمشق، ضمن ما بات يعرف بـ "وحدة الساحات"، حيث نفذت هذه القوى عمليات كثيرة لم تكن حاسمة لوقف عدوان إسرائيل على غزة ولا تقييدها بحدود جغرافية والالتزام بضمانات أمنية تضبط المواجهة.
تجزم اسرائيل بأنها لن تقبل أبدا بعودة الوضع في الجبهة الشمالية كما كان قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وتطالب باقامة "منطقة آمنة" على الحدود داخل لبنان، واعادة السكان إلى منازلهم في الشمال. ولكن على ماذا تستند في اصرارها هذا؟
اسرائيل التي خرقت القرار الاممي 1701 مئات المرات، تنتظر تمديد ولاية "اليونيفيل" سنة جديدة والعمل بمقتضيات القرار، ما يجبر "حزب الله" على تنفيذ بند رئيسي فيه يتعلق بانسحابه الى ما وراء نهر الليطاني، وهو مطلب اسرائيلي اساسي.
ينتظر المسؤولون الاسرائيليون اعلان الهدنة في غزة، ويضغطون على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للسير بها اليوم قبل الغد، ما يركز الجهود الحربية والسياسية اكثر على جبهة الشمال، خصوصاً ان حركة "حماس" لن تستطيع أن تقدم لحزب الله في جنوب لبنان أكثر مما قدمته في معارك غزة نظراً للضغط العسكري الكبير على القطاع.
كذلك، ان الجبهتين العراقية واليمنية بعيدتان جغرافياً وليستا جبهة اسناد وقتال مباشر، ولن تتمكن من مؤازرة "حزب الله" في اي حرب كبرى بالمستوى المطلوب، في حين تبقى الجبهة السورية خط امداد للحزب، ولا يرجح دخولها في حرب مباشرة ضدّ اسرائيل لأسباب متعددة.
أما الولايات المتحدة، فلن تترك اسرائيل وحيدة في اي حرب أوسع، وهذا ما تشير اليه الحشود العسكرية المستمرة في البحرين الاحمر والمتوسط، وتتجنب الصدام العسكري مع طهران، لا بل ان مصالحهما تتقاطع أحياناً في المنطقة، حيث تُبقي لإيران هامشاً كبيراً للمناورة وتعزيز مكانتها كدولة إقليمية.
تعيد طهران تموضعها في الإقليم ضمن المساومة على المكانة وتقاسم النفوذ مع واشنطن، وتضبط ردودها الأمنية والعسكرية متجنبة الانزلاق الى حرب قد تطيح بإنجازاتها طوال عقود خلت.
فرضت اسرائيل على "حزب الله" حرباً أوسع تخطت حدود المساندة، حتى بات لبنان جبهة رئيسية، قد تكون أخطر من اي جبهة في المنطقة بحال انتهاء حرب غزة.
وربما ينتظر "حزب الله" شهوراً اخرى، مدركاً أن النتائج الميدانية ستترجم لصالحه، مهما طالت الحرب وحتى لو توسعت وقامت اسرائيل بتوغل محدود، ومهما بلغت الخسائر البشرية والعسكرية وتدحرج الاقتصاد اللبناني الى انهيار اوسع، ليس هناك أي طرف لبناني واحد مستعد وقادر على مواجهته لأن شعارات معارضيه بعيدة جداً عن الواقع ضمن توازنات الاقليم الحالية.