الشرق الأوسط يمرّ في حالة توتر شديدة على جبهات عدة منذ بدء الحرب في غزة، وتحولت الأزمة من صراع محدود بين "حماس" وإسرائيل إلى صراع أوسع، يشمل أطرافاً إقليمية متمثلة بإيران وأذرعها مثل "حزب الله" و"الحوثيين"، وتفاقمت حدّة التصعيد مع اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر، وردّات الفعل المتوقعة، والتي تشير إلى أن المنطقة تقترب من الدخول في حرب شاملة.
الموقف الراهن خطير في ملامحه، بحيث يحاول كل طرف فرض شروطه والردّ على الهجمات التي يتعرّض لها. ومؤشرات دائرة التصعيد لا تقتصر على قطاع غزة فحسب، بل تمتد إلى لبنان وسوريا واليمن والعراق، ما يضع المنطقة أمام مستقبل ضبابي غير مستقر، لو تحول التصعيد الحالي إلى نزاع إقليمي، ما يجعل الجولة الجديدة من مفاوضات الدوحة بين "حماس" وإسرائيل محطة مهمّة لإيقاف فتيل الحرب.
الصراع بين إسرائيل وإيران مرتبط في إعادة ضبط معادلات الردع الاستراتيجية، فمن جانبه، يسعى بنيامين نتنياهو للحفاظ على قوة الردع الاسرائيلية مهما كان الثمن، بينما تدرك طهران أن استعادة قدرتها على الردع تتطلّب رداً مباشراً وملموساً تجاه إسرائيل، بخاصة بعد سلسلة الاستهدافات الإسرائيلية التي طالت قيادات أذرعتها. وبالتالي، يسعى كل من الطرفين إلى تعزيز موقعه الاستراتيجي وإرسال رسائل ردع واضحة إلى الطرف الآخر.
استراتيجية نتنياهو تتمثل في قدرته على فتح أكثر من جبهة، بحيث يوجّه ضربة استباقية للمحور الإيراني، لضمان أن تبقى إسرائيل الطرف الأقوى، وكأنها محاولة لجرّ إيران إلى فخّ المواجهة بدعم أميركي، وبالتالي إيران ومع رغبتها في رفع الحرج، وحماية مصالحها ونفوذها، قد تجد نفسها مضطرة للردّ بقوة أكبر مما فعلت في السابق، إلّا أنها تدرك المخاطر ولا تريد المغامرة بالانزلاق في حرب واسعة، ما يفسّر تأخّر الردّ الإيراني على اغتيال هنية.
أفرزت تداعيات حرب غزة تحولاً في مفاهيم الأمن الوطني، فبرغم تقدّم إسرائيل التكنولوجي والدفاعي والاستخباري، استطاعت أذرع إيران اختراق منظومتها الأمنية، بينما تعتمد الاستراتيجية الإيرانية على الحروب بالوكالة، والتي قد تعرّض أدواتها للتدمير، كونها أهدافاً سهلة بالنسبة إلى قوة إسرائيل العسكرية الهائلة، ما قد يُفقد طهران أوراقاً تستغلها لأغراض التفاوض السياسي.
تشكّل مفاوضات الدوحة اختباراً حقيقياً لقدرة الأطراف على احتواء التصعيد، ما يجعل هذه الجولة تختلف بشكل جوهري عن سابقاتها. فلا يمكن النظر إليها على أنها مجرد جولة عادية، تهدف إلى إبرام صفقة تبادل أسرى أو التوصل إلى هدنة موقتة، بل تأتي في سياق أكثر تعقيداً على المنطقة والعالم.
إيران ترى في المفاوضات فرصة لتعزيز موقعها مع الغرب عبر فتح كافة ملفاتها العالقة، مثل العقوبات الاقتصادية وملف الاتفاق النووي، وكعادتها تستغل تهديداتها وأذرعتها كورقة ضغط على طاولة المفاوضات لتحسين شروطها، بخاصة مع الولايات المتحدة. أما إسرائيل التي تمرّ في حالة تأهّب قصوى، وفي ظل حالة عدم اليقين والاستقرار تحسباً لأي هجوم متوقع، والذي اتجهت التسريبات الإيرانية العلنية إلى أنه قد يكون استهدافاً أمنياً بدلاً من كونه صاروخياً، فمجال المناورة لديها محدود باستثناء أهداف الحرب المعلنة.
وعند النظر إلى طاولة المفاوضات، سنجد أن إدارة جو بايدن تجد نفسها في موقف حرج مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ما يدفعها إلى السعي لتحقيق إنجازات ديبلوماسية يمكن أن تعزز موقفها داخلياً. ولهذا، تحاول تجنيب المنطقة الصراع عبر تكثيف حضورها العسكري كوسيلة للردع، والدفع بمبعوثين وممثلين من المستوى العالي لمواكبة جولة المفاوضات.
تجد "حماس" نفسها في وضعية ضعيفة مع الضغط العسكري الإسرائيلي، والوضع الإنساني الكارثي في غزة، ما جعلها تعلن عن عدم حضورها المفاوضات إذا ما قدّمت إسرائيل تنازلات. ولهذا، لوّحت بملف الرهائن المحتجزين لزيادة فرصها التفاوضية، ما يفسّر تصريحات ممثليها بإمكانية الجلوس على الطاولة، فلا يمكنهم تجاهل المفاوضات في هذه المرحلة الدقيقة.
أما السلطة الفلسطينية، فيبدو دورها غير مؤثر في المفاوضات، ولو بدت أكثر نشاطاً على الصعيد الديبلوماسي، والذي يتضح من خلال زيارة الرئيس محمود عباس لموسكو وأنقرة، وتعكس إدراك السلطة لأهمية تعزيز موقعها الإقليمي والدولي، في ظل تراجع دورها في الصراع.
من الصعب توقّع توقيت نهاية الحرب، طالما ظلت أطراف الصراع في دائرة التصعيد، ولعلّ الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة تفرز ديناميكيات جديدة، تستطيع إختراق الأزمة من جذورها، وإعادتها إلى طريق السلام والاستقرار.
*كاتب وباحث إماراتي