أثار الإعلامي المصري تامر أمين حالة من السخط والسخرية، عقب تصريحاته التي دعا فيها إلى إلغاء دراسة التاريخ والجغرافيا والفلسفة وغيرها من مواد العلوم الإنسانية من المرحلة الثانوية، بحجة عدم أهميتها في الحياة العملية، مطالباً بالاكتفاء بدراسة المواد العلمية التي تساهم في تنمية سوق العمل.
دراسة العلوم الإنسانية والفلسفية والفنون تمنح دارسيها المقدرة على التفكير النقدي، والتمعن في تقبّل الأطروحات الفكرية، والتشكيك في صحتها من عدمها، والنظر في مدى صلاحيتها وعوائدها على المجتمع والنطاق البشري، خلافاً للمناهج العلمية مثل الهندسة والطب والفيزياء، التي تدفع إلى تبنّي النظرة الأحادية في التفكير، في ظل الإيمان بالمنطلقات الثابتة عملياً ورياضياً، والانغماس في تراتبية فكرية منتظمة، ومن ثم التوسّع في التطرّف الفكري، في ظلّ تراجع هوامش الخيال.
على الرغم من أهمية دراسة المناهج والمباحث العلمية في مناحي الحياة العملية، بإمكانها أن تخلق نماذج بشرية لديها ميول عقلانية تتمتع برؤية جافة تجاه نظرتها إلى المجتمع وقضاياه، ويسهل تحوّلها إلى صيد ثمين للجماعات الأصولية ومناحيها السياسية والعسكرية، وفقاً لمجموعة من الدراسات البحثية التي تناولت روابط العلاقة بين التطرّف العنيف والمستوى التعليمي والفكري والثقافي.
تحليل الخريطة التعليمية للمنتمين إلى الجماعات الأصولية يدفع إلى أن أكثر من 80% من القيادات الحركية والتنظيمية هم من دارسي علوم الطب والهندسة والفيزياء والصيدلة، وفقاً لوثيقة "تحصين العقل" (Immunising the Mind) التي نشرها مارتن روز، مستشار المجلس الثقافي البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي توصل فيها إلى مفهوم "العقلية الهندسية" التي تجعل طلاب الكليات العملية يفشلون في التفكير النقدي، مقارنةً بتأثير المناقشات التي تقوم عليها تخصصات الفنون، ما يجعلهم في النهاية فريسةً سهلة للاستقطاب الفكري والتجنيد التنظيمي.
واعتبر روز في وثيقته أن ثقافة تدريس العلوم العلمية، كالطب والهندسة، تعتمد على طريقة الصواب والخطأ، أو الحق والباطل، ما يدمّر قدرة دارسي هذه التخصصات على تنمية مهارات الدراسة النقدية، والقدرة على التفكير والتساؤلات، سواء كانت معنية بالسلطة، أو العلم، أو السياسة، أو الدين، معتبراً أن 48.5% من المتطرّفين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حصلوا على تعليم عالٍ، وأن 44% من هؤلاء حصلوا على شهادات في الهندسة، بينما بلغت تلك النسبة 59% بين المتطرّفين في الغرب، وفقاً لتحليل دييغو غامبيتا في عام 2007.
وتحدثت وثيقة المجلس الثقافي البريطاني عن ضرورة إصلاح التعليم من خلال "إضفاء الصبغة الإنسانيّة" على تدريس التخصّصات العلمية والتكنولوجية، كمدخل للحدّ من ظاهرة التطرّف الديني لدى الطلاب، والتخلّي عن مناهج التعليم التي تشجع على التسليم والطاعة والتبعية والامتثال، بدلاً من التفكير النقدي الحرّ.
في نيسان (أبريل) 2016، صدرت دراسة عن "مركز الدراسات الدينية والجغرافيا السياسية" (Center on Religion and Geopolitics) تحت عنوان "معالم التّشدد" (Milestones to Militancy)، تناولت حياة أهم 100 شخصية من قيادات الصف الأول في الجماعات الأصولية المسلحة على مدار 30 عاماً الماضية، ممن انتموا إلى 49 جماعة أصولية متطرّفة، من 41 دولة مختلفة، أمثال أسامة بن لادن، وأبو بكر البغدادي، وأيمن الظواهري، وأبو محمد الجولاني، وأنور العولقي، وأبو مصعب الزرقاوي، وسيف العدل وغيرهم.
بيّنت الدراسة المسحية أن 46% من المتطرّفين درسوا في الجامعة، و57% من هؤلاء ينتمون إلى الشعبة العلمية أو ما يُعرف بـ (STEMM)، أي علوم التكنولوجيا، وعلوم طبيعية، والهندسة، والرياضيات، والطب، وأن عدد المتطرّفين من ذوي المرجعية العلمية أو دارسي الاختصاصات العلمية، أكثر بضعفين من الذين درسوا علوم الشريعة، في حين أن المتطرّفين الذين درسوا العلوم الإنسانية والاجتماعية يمثلون 11% منهم، فضلاً عن أن أغلب القضاة الشرعيين والمنظّرين للحركات الأصولية المسلحة هم من أصحاب التوجّهات العلمية وليست الدينية، إذ إن 29% من المنظّرين الشرعيين يحملون شهادات علمية، في حين أن 18% فقط منهم يحملون شهادات متخصصة في الدراسات الدينية.
استنتاجات شبيهة قدّمتها دراسة "Engineers of Jihad"، الصادرة عن جامعة برنستون الأميركية، التي ناقشت الخلفية التعليميّة للإسلاميين المتطرّفين، أو العلاقة بين المتطرّفين وتكوينهم الأكاديمي، للباحثين دييغو غامبيتا (Diego Gambetta)، أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وستيفين هيرتوغ (Steffen Hertog)، الأستاذ المشارك في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، واللذين بحثا ما سمّياه "لغز المهندسين": أسباب تنامي المهندسين بين صفوف الجماعات الأصولية المسلّحة.
تناولت الدراسة التي تحولت إلى كتاب في آذار (مارس) 2016، تحت عنوان "مهندسو الجهاد: الارتباط الغريب بين التطرّف والتعليم"، عينة من المتطرّفين حول العالم، بلغ عددها 497 حالة، ظهر أن 62 منهم أنهوا الدراسة الثانويّة فحسب، وعدد الذين ارتادوا الجامعات 178 فرداً، وأنّ 37 فرداً على الأقل من هؤلاء درسوا في جامعات غربيّة. وفي ما يتعلق بالتخصّص العلمي الذي سجّل أعلى نسبة إقبال بين هذه العينة، فهو الهندسة، إذ بلغ عدد دارسيها 78 في مقابل 34 فرداً فقط درسوا الشريعة. وجاء تخصّص "الهندسة الإلكترونية" في أول مرتبة، يليه تخصّص "هندسة الحاسوب"، ثمّ "الهندسة المدنيّة". وتشير الدراسة إلى أن تخصّص الهندسة شكّل ما نسبته 66.7% من تخصّصات قيادات الصف الأول في تنظيم "القاعدة".
دراسة بحثية أخرى قدّمها أستاذ الاجتماع المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم في عام 2003، شملت 34 عضواً من مجموعتين مارسوا العنف المسلح في التسعينات في القاهرة، بينت أن من بينهم 15 مهندساً، و6 أطباء، وصيدليين، وتقنيين.
عملياً، عدد كبير من خريجي كليات الطب والهندسة التحق بالجماعات الأصولية المسلّحة في الداخل المصري، وشاركوا وخطّطوا للعمليات المسلّحة التي نفّذتها هذه التنظيمات، سواء جماعة "الإخوان المسلمين"، أو "التكفير والهجرة"، أو تنظيم "الشوقيون"، أو تنظيم "الناجون من النار"، أو "الجماعة الإسلامية"، أو "خلايا الجهاد"، أو تنظيم "القاعدة"، أو تنظيم "داعش"، وغيرهم.
في النهاية، الإلمام بالقوانين والنظريات العلمية المجرّدة لا يشكّل وعياً، أو عقلاً قادراً على التفكير النقدي والتحليلي، والتعامل مع تحدّيات الحياة بمرونة وابتكار، بينما دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية تمثل الركيزة الأساسية في فهم الطبيعة البشرية وتطوراتها من خلال تحليل العلاقات الإنسانية ودراسة السلوكيات الاجتماعية وفهم التفاعلات بين الأفراد والمجتمعات، ومن ثم تخلق عقلاً نقدياً واعياً، محصناً ضدّ الأفكار الشاذة التي يدّعي أنصارها امتلاك الحقائق المطلقة.