النهار

زملاء عمل... ولا أعزّ!
نانسي فضّول
المصدر: النهار العربي
بدءاً من أول التجمعات البشرية التي اعتمدت على الصيد للطعام، مرورًا بمجتمعات نشأت مع الثورة الزراعية، وصولًا إلى مؤسسات وشركات حديثة، يعزز العمل الجماعي تبادل الأفكار وتلاقح المعارف والتنافس على الإبداع، ويُنشئ بيئة من الدعم المتبادل... فإن يداً واحدة لا تصفّق. ​
زملاء عمل... ولا أعزّ!
(تعبيرية)
A+   A-
"الجنّة من دون ناس، ما بتنداس". كان هذا القول غريباً، على الرغم من أنني أسمعه كثيراً. كان وجودنا بين الناس ولقاؤنا أصدقاءنا والتفاعل مع زملاء العمل أمرًا بديهيًّا، مسلّمًا به، إلى أن حلّت بنا الجائحة... فألزمتني منزلي، كحال جميع الناس، وجعلتني أرى العالم من وراء الشاشة، بعدما تعذّر العيش والتفاعل الاجتماعي المباشر بسبب الوباء.
 
فعلاً، أنا كائن اجتماعي، لا استطيع العيش من دون تفاعل بشري. بالجماعة أبقى، وبالعمل الجماعي أحيا. فالعمل ضمن مجموعة أساسٌ بُنيت عليه حضارات إنسانية، وتحقّقت من خلال ابتكارات جميلة، وأُنجزت به اكتشافات عظيمة. وبدءاً من أول التجمعات البشرية التي اعتمدت على الصيد للطعام، مرورًا بمجتمعات نشأت مع الثورة الزراعية، وصولًا إلى مؤسسات وشركات حديثة، يعزز العمل الجماعي تبادل الأفكار وتلاقح المعارف والتنافس على الإبداع، ويُنشئ بيئة من الدعم المتبادل... فإن يداً واحدة لا تصفّق.
 
كانت الجائحة نقطة تحوّل محورية في حياتنا جميعاً. كان العمل من المنزل "حلماً يتحقق"، بعدما كان فكرةً بعيدة المنال، لم تخطر في ذهني يوماً. فكيف لي أن أنجز مهماتي فأتقاضى راتباً من دون مغادرة المنزل؟ كان هذا حقًا ضربًا من الجنون.
 
لكن، كان العمل يسير على قدمٍ وساق بنعمة الإنترنت. تواصلت مع مدرائي وزملائي وأنجزت أعمالي بلا تردّد، وشاركت في اجتماعات "مسلية" عبر التطبيقات المختلفة. يعني، كان الأمر مريحًا... أن أهزّ مهد طفلي بيميني، وأنجز أعمال الشركة بيساري. 
 
ولكن! بعد فترة من الزمن، اقتحم حياتي ضيف ثقيل الظل: الملل. بدأت أشعر بالوحدة في المنزل، وأحنّ إلى التفاعل المباشر مع الناس في المكتب، بعدما أرهقني العمل من المنزل نفسياً وجسدياً، وشتّت طاقتي الإبداعية. شعرت أنني منفصلة عن البشرية كلها، وعن زملاء أريدهم اليوم أن يكونوا أصدقاء، بلا اكتراث لمن يقول إن لا صداقة في المكتب، إنما زمالة يحكمها الأداء... وهي "الحكمة" التي أرفضها اليوم، كما رفضتها رايتشل دودس، في مقالة جميلة نشرتها في صحيفة "وول ستريت جورنال"، قالت فيها إن الجائحة جعلتنا أشدّ حاجةً إلى أصدقاء العمل، "فالعمل الهجين يصعّب عملية نسج الروابط الوثيقة مع الزملاء، وهذه روابط ضرورية لرفع معنويات الموظفين والحفاظ على صحتهم النفسية، وبالتالي تعزيز إنتاجيتهم".
 
ويذهب ألوك باتيل وستيفاني بلومان، في موقع "غالوب"، أبعد من هذا، فيقولان إن "صديقاً مقرّباً" ينتخبه المرء من بين زملاء العمل، "يمنحه دعماً اجتماعياً ونفسياً صار بأمسّ الحاجة إليه اليوم".
 
حين انقضت الجائحة، وعدت إلى مكتبي "المزدحم" في "النهار"، اكتشفت فعلاً أن الجمال يكمن في تفاصيل صغيرة تنمو في قلب صداقات حقيقية، أو صارت حقيقية عن بُعد، وتوثّقت عروتها بعد ذلك، "فالعمل إلى جانب أصدقاء مقرّبين يساهم في تقليل مستويات التوتر والقلق، ويساعد في التخفيف من حدّة الإرهاق والضغط"، كما تقول دودس.
 
إلّا أن دودس نفسها تحذّر: "إن انتخاب صديق مقرّب في بيئة العمل يتطلّب بذل جهد مضاعف، والتمسك بالحذر أكثر، إذ يستدعي الأمر ترسيخ عامل الثقة في عالم محكوم بالمنافسة، وانتهاز الفرص، والبحث عن نقاط ضعف الزميل"، وهذا ما تسمّيه "ديناميكيات مواقع القوة والصراعات على المصالح".
 
من حيث المبدأ، لا أخالفها كثيراً، إلّا أنني لا أستطيع أن أصدر حكماً مجرّداً في هذه المسألة، ما دمت قد ارتبطت بأفضل الأصدقاء في العمل، وتشاركنا التجارب الإيجابية. فمن يومي الأول، كانت الصداقة عنواناً لتشارك اللحظات السعيدة والتحدّيات الصعبة.
 
ربما أميل أكثر إلى رأي باتيل وبلومان حين يقولان إن "الصداقة الوثيقة بين زميلي عمل تدفعهما أكثر إلى حسن استثمار الشراكة المهنية لتعزيز إنتاجيتهما، وهذا يرفع منسوب رضاهما عن وظيفتيهما، كما يميلان إلى أن يكونا أكثر ابتكارًا، وأكثر دعمًا لبيئة عمل آمنة، خصوصاً إن لعب ربّ العمل دوراً إيجابياً في تعزيز الصداقات بين منسوبيه"... فالسرّ دائماً في حسن التفاعل، وهذا يأتي فعلاً من التواصل المتكرّر، ومن العلاقات الاجتماعية القوية.
 
تبقى هذه المسألة شائكة. لدودس رأي آخر في مسألة ربّ العمل. تقول إنه، أحياناً، يرتاب من العلاقات الوثيقة بين موظفيه، خصوصاً إن كانا من الجنسين، وترى أن "الثقة عامل أساس في أي بيئة عمل، وعلى المدير ألّا يكون مديراً فحسب، بل عليه أن يكون قائداً رائداً، يُرسي النموذج الحقيقي للزمالة المبنية على الصداقة".
 
ربما فات دودس وباتيل وبلومان أن يقولوا إن لا زمالة منتجة من دون صداقة حقّة. هذا رأيي طبعاً.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium