مع كل دورة انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة الأميركية، يشكّل توقيت المناظرة الإعلامية المباشرة بين مرشح الحزب الديموقراطي ومرشح الحزب الجمهوري قُطبية الحدث على امتداد زمنية ما قبل المناظرة وفي خلالها وما بعدها، ارتكازاً على ما تحمله من شحنات تعزز موقع كل مرشح وتظهر إمكاناته وتبيّن قدراته في التعامل مع فجائية اللحظة. وأكثر ما ينجذب إليه الجمهور غير المحزّب والاصطفافي هو شحنة الجاذبية التأثيرية التي تتكوّن من الكاريزما الشخصية والنبرة الصوتية وفنيّة الطلّة على الناس، ومعنى الكلام والمواقف التي يطلقها المرشح في خلال الدقائق التسعين للمناظرة وما يخصص له من وقت محدّد بالثواني للإجابات عن أسئلة مُديرَي المناظرة اللذين يتقنان فن التعامل مع اللحظة من ناحية التأثير على إجابات الأسئلة الموجهة إلى المتناظرين، وفن تظهير الإجابات والتركيز على لغة الجسد وتعابير الوجه ودلالاتها وانعكاسات ذلك على آراء المتابعين للمناظرة وتأثيره في نتائج استطلاعات الرأي التي ترافق المناظرة وما بعدها، من ترجيع صدىً وإبراز النواقص والهنات، وتركيز على الأخطاء والتجليات عند كل مرشح.
ويشكّل إعلام المناظرات نوعاً ديموقراطياً من وجوه السلطة الإعلامية وكيفية إدارتها للعملية السياسيّة في مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية، ما يعتبر تأثيراً معنوياً مباشراً من السلطة الإعلامية على تشكيل السلطة الرئاسية. والسؤال الأبرز الذي يطرحه المراقبون السياسيون وخبراء استطلاعات الرأي ما قبل المناظرة و بعدها، هو عن قدرة كل مرشح على التحلّي بسرعة البديهة وقوة الإقناع في الإجابات وصراحته في المواجهة، فضلاً عن فن التخطئة وجذب انتباه الجمهور العام والتركيز على هدفين اثنين:
1- العمل على تحقيق التوازن بين ما يجب قوله وما يمكن قوله رداً على الأسئلة الموجهة إليه، فضلاً عن التزامه إقناع جمهوره من جهة، والعمل على تحويل آراء جمهوره الخصم من ناحية أخرى ولو بالحد الأدنى.
2- انتهاز فرص إجابات المرشح المنافس للبناء عليها، نقضاً وتصويباً، ما يحصّن موقعه ويخلخل موقع المرشح الآخر ويظهره بموقع متقدّم عليه بالنقاط. وهذا ما يترك انطباعات حادة ذات تأثير لدى جمهور المتناظرين، كما لدى المراقبين والفئة الرمادية من المنتخبين.
وإذا كانت العمليات الإعلامية مرافقة بقوة للعمليات الانتخابية، فإن إعلام المناظرات هو من أكثر أنواع البرامج الحوارية والنقاشية تطلباً للاستراتيجيات في صناعة الرأي العام قبل الانتخابات الرئاسية، ويشكل محتوى يُبنى عليه في تقرير السياسات المستقبلية للبلد، بالارتكاز على سياسة ومبادئ حزب وتوجهات كل مرشح أُشرك في المناظرة التي لا يشارك فيها إلا المرشحان النهائيان للحزبين الرئيسيين في البلاد.
والأهم من إنتاج المناظرة التي تخضع لعملية حرفية وعلمية دقيقة تجمع بين سلّة أسئلة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ومستقبلية ومصيرية، هي عملية التهيئة للمناظرة وإعدادها لوجستياً وفنياً، باحتساب الثواني التي قد تؤثّر على الزمن الآتي وتحدّد مستقبل الدولة ووجهة الحكم فيها.
فإلى أي مدى يمكن أن يكون مستقبل العالم مثلاً مرتبطاً بمفاعيل المناظرة الرئاسية بنسختيها الأولى والثانية ونتائجها وتأثيراتها، وما ينتظر المجتمع الأميركي من تأثيرات نفسية بعد المناظرة الثانية المقرّرة في أيلول (سبتمبر) المقبل بين دونالد ترامب وكامالا هاريس؟