النهار

السودان في غيبوبة... وإثيوبيا تصدم مصر: السدّ اكتمل!
محمد حسين أبو الحسن
المصدر: النهار العربي
في خطوة تثير قلقاً شديداً في مصر والسودان، شعبياً ورسمياً، أعلن آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، عن اكتمال بناء سدّ النهضة على النيل الأزرق
السودان في غيبوبة... وإثيوبيا تصدم مصر: السدّ اكتمل!
لقطة جوية للأراضي الزراعية في الريف شمال محافظة الأقصر جنوبي مصر (ا ف ب)
A+   A-

في خطوة تثير قلقاً شديداً في مصر والسودان، شعبياً ورسمياً، أعلن آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، عن اكتمال بناء سدّ النهضة على النيل الأزرق، وأنه سيكون جاهزاً 100% في كانون الأول (ديسمبر) المقبل. ووصف السدّ بأنه "إنجاز تاريخي" رغم التحدّيات التي واجهتها البلاد بنجاح، وتفاخر بأن إثيوبيا تعزز مكانتها قوة إقليمية، نجحت في تحقيق أهدافها بجدارة حتى الآن.

في المقابل، يشعر المصريون بقلق وغضب إزاء هذه الخطوات الأحادية، أما السودانيون فالحرب تشغلهم وكأنهم في "غيبوبة"، لكن ليس لوقت طويل، ما ينذر بإمكان انجراف الأزمة إلى شفا الهاوية.

أزمة وشيكة

كشف آبي أحمد عن أن كمية المياه المحتجزة في بحيرة السدّ 62,5 مليار متر مكعب، وتوّقع زيادتها إلى 71 ملياراً بحلول كانون الأول (ديسمبر) المقبل، من إجمالي سعة السدّ البالغة 74 مليار متر مكعب. وأوضح أنه سيتمّ تشغيل 3 توربينات في كانون الأول (ديسمبر) ليرتفع عدد التوربينات العاملة إلى 7 توربينات، قادرة على توليد 5150 ميغاوات من الكهرباء. أما سليشي بقلي، رئيس لجنة التفاوض الإثيوبية حول السدّ، فأكّد أن بناء السدّ الخرساني اكتمل مع بقاء بعض اللمسات النهائية لأعمال التشطيب. 

تتبع الحكومة الإثيوبية سياسة "حافة الهاوية" ضدّ مصالح مصر والسودان في النيل، في تصعيد محسوب على حافة الصدام، وقد خطت خطوة أبعد بانتهاج سياسة "اللعب بالنار": إنها تطلق التهديدات، عطفاً على التصلّب في المفاوضات، ولا تخجل من مطالبة البلدين بعدم الاعتداد بالاتفاقيات القديمة، ومنها اتفاقيات 1902 و1929 و1959 التي وصفتها بالاستعمارية، وصولاً إلى إكمال بناء السدّ من دون الاستماع لأنّات دولتي المصبّ. 

رغم هذه الممارسات المتعنتة، تدّعي إثيوبيا "المظلومية"، فيما يهطل عليها 1000 مليار متر من الأمطار سنوياً، والمياه السطحية فيها 122 مليار متر مكعب، ولديها 12 نهراً و22 بحيرة، ومياه جوفية متجددة، ويتجاوز نصيب الفرد من المياه 1900 متر سنوياً. أما مصر فليس لها سوى 55 مليار متر مكعب من النيل، وتستورد 60% من غذائها، ولا يتجاوز نصيب الفرد 500 متر مكعب، مع تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف.

تتصاعد التحذيرات في مصر من أن البلاد أمام أزمة غير مسبوقة في تاريخها، بسبب سدّ النهضة، فلأول مرّة، يتمّ التحكّم في تدفق مياه النيل إلى مصر بطريقة أحادية، بعدما أحكمت إثيوبيا قبضتها على النيل الأزرق. ولم تكتفِ بذلك، بل دعت باقي دول منابع النيل إلى أن تحذو حذوها بإنشاء المزيد من السدود، وهو ما بدأ الإعداد له بالفعل بدعم من قوى إقليمية ودولية، ومنظمات تمويل مختلفة. 

إنها علامات تلوح في الأفق على أن الأزمة ليست في طريقها إلى الحلّ، بل العكس هو الصحيح.

تصاعد الصراع

تتّهم مصر إثيوبيا بمخالفة مبادئ القانون الدولي بشأن الأنهار المشتركة والعابرة للحدود. ورغم أن أديس أبابا والقاهرة والخرطوم خاضت جولات من المفاوضات طوال العقد الماضي، فإنها لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق نهائي، ما يزيد الأوضاع تعقيداً ويهدّد بتصاعد الصراع، لا سيما أن إثيوبيا تعتزم بناء 3 سدود أخرى على النيل الأزرق، في مثل حجم سدّ النهضة، بقدرة تخزين تصل إلى 200 مليار متر مكعب، توازي إيراد النهر في 4 سنوات كاملة، من دون أن تذهب نقطة مياه واحدة إلى مصر والسودان عند اكتمال بناء هذه السدود الثلاثة. 

يُفاقم اكتمال سدّ النهضة مخاوف المصريين من تأثيراته على أمنهم المائي. يوفّر النيل 95% من احتياجات البلاد من المياه، وأي تغيير في تدفّقه يعدّ مصدر خطر وإزعاج هائل للحكومة والشعب. وسبق لمصر أن حذّرت، مراراً، من أي ملء أو تشغيل للسدّ من دون اتفاق قانوني ملزم. ويحذّر المسؤولون المصريون من التداعيات الكارثية على حصّة البلاد من النيل، بما يعني "أزمة وجودية" وتهديد الزراعة وبوار أراضيها، والصناعة وسبل معيشة ملايين البشر في مصر والسودان.

يعكف خبراء مصريون على تحليل السيناريوهات المختلفة لتأثير السدّ على تدفق مياه النيل. وقد دعت الحكومة المصرية المجتمع الدولي إلى التدخّل لمنع تفاقم الأزمة، محذّرة من أن استمرار إثيوبيا في سياساتها الأحادية قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة برمتها. رفعت القاهرة الأمر إلى مجلس الأمن أكثر من مرّة، وهي تدقّ ناقوس الخطر، لكن المجلس اكتفى ببيانات شكلية وأعاد أمر التفاوض إلى "الاتحاد الأفريقي" لرعاية المباحثات حول السدّ بين الدول الثلاث، ما أدّى إلى انهيار التفاوض لعدم قدرة هذا الاتحاد على فعل أي شيء أمام الصلف الإثيوبي المدعوم إقليمياً ودولياً، حيث يتخذ الاتحاد الأفريقي من أديس أبابا مقراً له. 

ولا قطرة واحدة

مصر ليست خصماً هيناً، وسبق أن أعلنت بوضوح شديد أنها لن تقبل سياسة "فرض الأمر الواقع" من جانب إثيوبيا. ويردّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: "لن نسمح بكل ما من شأنه العبث بأمن واستقرار دولنا وشعوبنا". وهذا يعني أن القاهرة لن تفرّط بقطرة واحدة من حصتها في النيل، تملك من الوسائل السياسية والعسكرية ما يصون حقوقها، والرسائل مصوّبة في بريد الجميع.

ولو وضعنا في خلفية المشهد ما تعانيه منطقة الشرق الأوسط من اهتزازات بسبب شحّ المياه، لأدركنا لماذا يقف المصريون، في قضية النيل، صفاً واحداً خلف أي قرار تتخذه القيادة السياسية، دفاعاً عن مقدراتهم. قد لا يعرف كثيرون أن أزمة المياه كانت سبباً جوهرياً لاضطرابات في إيران والجزائر، بل وفي تردّي الأوضاع في العراق وسوريا، وصولاً إلى صراعات الميليشيات والهيمنة الخارجية، بعدما أقامت تركيا مشروع سدود جنوب الأناضول على نهري الفرات ودجلة، بتحريض أميركي – إسرائيلي، لتكون المياه ورقة مهمّة في الضغط على الدولتين. اعتبرت أنقرة دجلة والفرات نهرين "عابرين للحدود" تحتجز مياههما، لا نهرين دوليين، وتبعتها في ذلك أديس أبابا. وفي يوم افتتاح "سدّ أتاتورك" في تشرين الأول (أكتوبر) 1992، صرّح سليمان ديميريل، رئيس الوزراء التركي آنذاك، أن العرب يبيعون نفطهم، ونحن يجب أن نبيع مياهنا. 

تحكّمت تركيا في مياه سوريا والعراق قبل أن تغزوهما عسكرياً، متى شاءت، لكن تكرار الأمر من جانب إثيوبيا تجاه مصر والسودان يبدو صعب المنال، والأسباب أكثر من أن تُحصى.

وذاك حديث آخر.

اقرأ في النهار Premium