حسّان خضر
بعد عام ونيّف على آخر رفع لسعر الفائدة أعلنه الاحتياطي الفدرالي الأميركي بربع نقطة مئوية (من 5.25 إلى 5.50%) في تموز (يوليو) 2023، وبعد توقعات بدأت في أواخر عام 2023 بأن يشهد النصف الأول من العام الجاري بداية نهاية التشدّد النقدي، تتطلع الأسواق العالمية والأسواق الناشئة على وجه التحديد إلى خفض الفدرالي الأميركي سعر الفائدة بين ربع ونصف نقطة مئوية في اجتماعه المرتقب في 17 و18 أيلول (سبتمبر) المقبل.
فبعد وصول أسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها منذ سنوات عدة بهدف كبح جماح أسوأ ارتفاع للتضخم منذ جيل كامل، أصبحت المصارف المركزية الآن تحت ضغط شديد لعكس الاتجاه. ومن بين البنوك المركزية الرئيسية التي اتخذت بالفعل خطوتها الأولى نحو سياسة نقدية أكثر مرونة هي بنك كندا، والبنك المركزي الأوروبي، والبنك المركزي السويسري. لذا، يمكن القول إن تحقيق تقدم مزيدٍ نحو خفض التضخم، والارتياح الذي يخلقه التيسير المالي من جانب البنوك المركزية، يشكلان "اليقين" الاقتصادي الوحيد لهذا العام في ظل قتامة الأوضاع الجيوسياسية في أكثر من منطقة في العالم والتي تأتي في صدارة المخاطر التي تهدد الاقتصادات والأسواق العالمية.
هواجس مهمة
على هامش هذه المسألة، ثمة هواجس مهمة ينبغي بحثها، يتصل بعضها بوتيرة خفض أسعار الفائدة ومداه، إذ يصرّ محافظو البنوك المركزية على ربط سياستهم ببيانات سوق العمل بوصفها المتغير الرئيسي الذي يؤشر على المرونة الاقتصادية ونمو الأجور وتوقعات التضخم.
كذلك، ثمة مخاوف مستمرة من أن جزءاً من تأثير زيادات أسعار الفائدة السابقة ستظهر لاحقاً. وعلى الرغم من صعوبة تقييم التأثير الكلي للأثر المتبقي لأسعار الفائدة المرتفعة، فهناك خطر واضح يهدد النمو، وبالتالي التضخم، وهذا مهم أيضاً للأسواق المالية، ولتوقعات أسعار الفائدة.
وإن كان اجتماع أيلول (سبتمبر) المقبل يمثل نقطة البداية في سياسة التيسير النقدي للاحتياطي الفدرالي الأميركي، فإن هذه السياسة ستعتمد على البيانات التي تتحرك قرب ما يتوقعه مسؤولو الاحتياطي الفدرالي، مع الاستمرار في خفض التضخم ليبلغ الهدف الذي رسمه البنك المركزي أي 2%، فيما تظل سوق العمل في حال توازن تقريبي مع مكاسب متواضعة في الأجور والوظائف الشهرية.
إن السؤال حول توقيت وقوة انتعاش النمو مهم خاصة للأسواق المالية، وللمسار المتوقع لأسعار الفائدة. يعتمد تسعير الفائدة أيضاً على الإجابة عن تساؤل مهم: هل هناك جانب سلبي لسيناريو الهبوط الناعم في الولايات المتحدة؟ هذا الهبوط يعني أنه بعد تشديد السياسة النقدية تشديداً كافياً، سيعود التضخم إلى الهدف المرسوم له من دون ركود اقتصادي ولا زيادة كبيرة في معدل البطالة. وهذا يستلزم خطر ظهور الاختناقات والمخاطر المترتبة على توقّعات التضخم بسرعة، بمجرد عودة النشاط إلى الارتفاع، ما يستدعي إعادة تقييم توقعات السياسة النقدية، وإنهاء مبكر للتيسير النقدي وزيادة في عائدات السندات.
كلي أو جزئي
في أي حال، تترقب الأسواق العالمية – وتحديداً الأسواق الناشئة - قرار الفدرالي بشأن خفض سعر الفائدة، خصوصاً تلك التي يرتبط سعر عملاتها كلياً أو جزئياً بالدولار الأميركي، مثل دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء الكويت التي ربطت دينارها بسلة منوعة من العملات.
وتقوم دول مجلس التعاون الخليجي باقتفاء أثر الفدرالي الأميركي في أي تعديل في أسعار الفائدة. وبالتالي، سيأتي بعد التخفيض المرتقب تخفيضٌ في أسعار الفائدة في تلك الدول، ما يساعد في تقليص تكاليف التمويل، وتعزيز السيولة النقدية، ودعم الاستثمار على المستوى الإقليمي.
وإن كانت سياسة الاحتياطي الفدرالي النقدية قد رفعت تكاليف التمويل في دول مجلس التعاون الخليجي خلال عام 2023، فإنها ساهمت في الوقت عينه في رفع أرباح المصارف المحلية، والدليل ارتفاع صافي أرباح البنوك الخليجية بنسبة 10.5% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2024 إلى 14,4 مليار دولار، فيما ظل التضخم الرئيسي متواضعاً عند نحو 2.6% في عام 2023، ومتوقع أن ينخفض إلى 2.3% في عام 2024.
قطاع مصرفي متين
ربما يتأثر التحسّن الملحوظ في أداء القطاع المصرفي بدول مجلس التعاون الخليجي إذا استمر تراجع ضغط التضخم في الولايات المتحدة، وبقي الاحتياطي الفدرالي على موقفه من التيسير النقدي. فهذان الأمران يؤديان إلى خفض أرباح البنوك. وهنا، المعضلة التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي هي قدرتها على مجاراة الفدرالي الأميركي في سياسته النقدية من دون التأثير في نموها الاقتصادي، خصوصاً أنها ساعية اليوم إلى تنويع مصادر اقتصاداتها، وإلى ترسيخ قطاع مصرفي متين، قادر على تمويل قطاع الأعمال غير النفطي، بما ينعكس إيجاباً على النمو الاقتصادي للقطاع غير النفطي.
لكنّ ثمة تخوّفاً من تزايد مخاطر التضخم، نتيجة لصدمات خارجية قد تطال أسعار السلع الأساسية والسلع الأخرى. على سبيل المثال، ربما تؤدي المخاطر الجيوسياسية في الشرق الأوسط إلى تعطيل التدفقات التجارية عبر البحر الأحمر وخليج عدن، ما قد يسبب بدوره ارتفاعاً في تكاليف الشحن. وتشير تحليلات صندوق النقد الدولي إلى أن مضاعفة تكاليف الشحن قد تؤدي إلى ارتفاع معدّل التضخم بمقدار 0.7 نقطة مئوية.
على الرغم من ذلك كله، تبدو التوقّعات الخاصة بدول مجلس التعاون الخليجي أكثر تفاؤلاً مقارنةً بباقي دول العالم، نتيجة إلغاء التخفيضات في إنتاج النفط، ومحافظة أسعار النفط على مستويات مرتفعة دولياً، ونمو القطاعات الاقتصادية غير النفطية. ولا شك في أن معدّلات التضخم المعتدلة واتخاذ البنوك المركزية قراراً بتخفيف قيود السياسات النقدية اعتباراً من النصف الثاني من العام الجاري سيساهمان في تعزيز هذا النمو في هذه الدول.