تفرض العصرنة نمطية جديدة عند الشباب، في وقت يزداد تأثير هؤلاء في مساحة الحياة العامة، نظراً إلى ازدياد عددهم من جهة (تُقدّر الأمم المتحدة وجود 1,8 مليار شخص أعمارهم بين 10 و24 سنة)، ولأن الشباب يتفاعلون أكثر من غيرهم مع التطور التقني ومع عالم الأرقام الذي دخل في كل المجالات، وتغلغل إلى كل الزوايا، بما في ذلك الوسط الذي يُحدِّد الانتماء السياسي والقومي للأفراد.
إنّ التحدّيات التي تواجه الشباب العربي متشابهة في أغلبية أوجهها مع التحدّيات التي تواجه الشباب في العالم، والفوارق البسيطة لا تكفي لتأسيس مقاربة خاصة. فارتفاع منسوب البطالة في بعض الدول العربية ليس ظاهرة عربية خاصة، بل هناك ما يُشبهها في دول أخرى من العالم، وبقاء آثار للأُمية في بعض المناطق لا يعني بأية حال أن هذه الوضعية طاغية، أو عصية على المعالجة، على الرغم من أن تراجع منسوب التعليم في بعض الدول العربية المنكوبة لم يَحُل دون انخراط شبابها في مسيرة العصرنة الرقمية، ولو كانوا ضحيةً للفقر والإهمال والتشرُّد في بعض الأحيان.
الدول العربية متقدمة على مستوى وجود فئة الشباب بين سكانها، وهي تقع وسط العالم الذي تتجاذبُه الأهواء الرقمية والمصالح الكبرى، وقد تكون مستهدفة أكثر من غيرها في الاستقطابات التي تعمل لها الدول المؤثرة. في المقابل، مناعة الشباب العرب متقدمة عن بعض الآخرين في بعض المجالات، خصوصاً في التمسُّك باستخدام اللغة العربية نسبياً، وفي الحفاظ على بعض التقاليد التي تميّز المواطن العربي في تعاطية الإنساني مع الآخرين، على الرغم من أن جزءاً مهمّاً من الشباب العربي منتشر في دول العالم على اختلافها، بعضهم بسبب الهجرة طلباً للعمل، وبعضهم لتحصيل العلم، وعدد آخر هرباً من الحروب وبسبب التهجير القسري.
يمكن الملاحظة بوضوح أن أهواء الشباب العربي في القضايا السياسية تغلب عليها الرؤى الإنسانية، أكثر مما تغلب عليها الرؤى القومية، وتتفاعل مجموعة كبيرة من هؤلاء مع الملفات المؤلمة في الوطن العربي كونها مآسي يتعرَّض لها ناس أبرياء، وتستوجب الرأفة بهم، والوقوف معهم، ومساعدتهم أحياناً. ويتشابه موقف الطلاب العرب مع موقف شباب وطلاب من دول أجنبية، في تفاعلاتهم مع قضايا عربية خالصة، باعتبار أن ما يجري ظُلمٌ موصوف، وإبادة واضحة المعالم، لا يقرّها القانون الدولي، وتحرّمها المعاهدات الإنسانية العالمية.
ويمكن ملاحظة هذه التفاعلات والمواقف من خلال الحراك التضامني مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرَّض لوحشية غير مسبوقة في قطاع غزة وفي الضفة الغربية. والطلاب العرب، كما أقرانهم من دول أخرى، انتفضوا في بعض الجامعات الأميركية والأوروبية، لأن انتهاك قوات الاحتلال الاسرائيلي حقوق الإنسان فاق كل تصوُّر، والإرتكابات المُهينة تجاوزت كل الحدود. ولا يمكن إضفاء حصرية مطلقة على هذه الوضعية، بل يمكن تسجيل مواقف مشهودة، ظهرت فيها العاطفة القومية عند البعض، وغامر عدد منهم بمستقبله التعليمي من أجل قضية قومية محقّة. وقد استغلَّت جهات معادية تحركات قومية وإنسانية متجرّدة، لدسّ أعلام حزبية بين المتظاهرين، لتشويه صورة التحركات الصادقة، وهذه عادة درجت في اللجوء إليها قوى مؤيدة لإسرائيل في أكثر من مناسبة، لتشويه صورة العرب والمسلمين، وإلصاق تهم التطرّف والإرهاب بهم، بينما يلقى مثل هؤلاء تشجيعاً من أعداء الأمة على الدوام.
من خلال بعض المشاهدات والأبحاث والمتابعات، يمكن ملاحظة التراجع الواضح عند الشباب العرب في ما يتعلَّق بالرؤى القومية العربية الموحّدة. والصراحة الموضوعية تفرض علينا تسمية الأشياء بأسمائها، وبالتالي تأكيد وجود حالة من الضياع عند الشباب، أدّت إلى شيء من التشويش الفكري، وإلى زهد واضح بالاهتمام بالعناوين القومية العربية، إذا لم نقُل إلى يأس من الأحوال المتردية التي وصلت إليها بعض الدول العربية، ومن صورة الشلَّل التي تظهر على سياق العمل العربي المشترك، بينما يشاهد الشباب العرب شكلاً من أشكال الاستباحة الخارجية تطغى على ساحات عربية أساسية، كما تتفاقم في أكثر من دولة عربية حالات البؤس والعوَز والافتقار للحدّ الأدنى من الحقوق البديهية للإنسان، والحروب والصراعات الداخلية آخذة بالتنامي في بعض الدول، وتسود حالات التعنُّت والاستبداد، ويتجاهل المتخاصمون المساعي الحميدة، والجامعة العربية في وضعية تعجز معها عن فرض أي حلّ.
ليست الثقافة القومية العربية – خصوصاً عند الشباب –بالضرورة تعصُّباً أو انغلاقاً على الإطلاق، وهي لا تتعارض مع الانفتاح المطلوب على العالم وعلى مناحي التقدُّم العلمي والتكنولوجي، الذي هو ملك للبشرية جمعاء. لكن الوقائع التي ما زالت تتحكَّم بالسياسات الدولية تفرض حداً أدنى من التضامن القومي، وهو ما تعمل له القوميات والأمم الأخرى في العالم، ولم تتخلَّ عنه الدول الكبرى، وباسم هذا التمايز، يتمّ تسويق ثقافات وأفكار هدفها فرض وصايات على شعوب أقلّ نمواً.
إنّ المشاعر الإنسانية تجاه المظلومين من الفلسطينيين فضيلة لا يمكن إنكارها، لكنّ استهداف هؤلاء أو استغلالهم ينطلق من خلفية قومية وعربية ودينية وجيوسياسية لا يمكن إخفاؤها، والتضامن القومي مع قضيتهم واجب عربي، ذلك أن استدراج الأخوة أو استهدافهم منفردين يتبعه ظلمٌ يلحق بالآخرين. فالمثل يقول: "تأكّد هلاك الثور الأبيض عندما سُمح بذبح الثور الأسود".