ليس أخطر من توظيف فنّ الإعلام الجاف في ظروف البلد المصيرية وأحوال النزاعات وحدَّةِ الصراعات التي تشكّل محور الافتراقات ومحطة الاختراقات، بين الفرقاء المتباعدين الموزّعي الولاءات والانتماءات، والذين تتظهّر خلافاتهم وحروبهم السياسية والزعامتية وفق نظرة كل منهم إلى دوره ومسؤوليته تجاه مجتمعه الخاص والمواطنين بشكل أوسع.
وإذا كان للإعلام القوي والمشحون بنظم خبرية ومؤثرات نفسية دورٌ رئيس في تفعيل الحراك الشعبي لنصرة قضية أو تأييد موقف ومساندة رأي، فضلاً عمّا يشكّله من دعم معنوي لتقوية المعنى وتعزيز الهدف المقصود، فإن خطر وجود وتوظيف الإعلام الجاف يشكّل نمطاً جديداً من أصناف التضليل المعلومي وتجهيل المعلومات واغتيال الحسّ المعرفي، وذلك من خلال استخدام تقنية الإعلام الجاف الذي يتّصف بأنه إعلام اللاّإعلام، والإعلام الفارغ، والإعلام القاحل الماحِل، الذي يتهرَّب من مسؤولياته ويخاف الجهر بالحقيقة، فتسقط سلطته ويزول دوره ولا يبقى له لا فعلٌ ولا أثر ولا تأثير، لا في العنوان ولا في المضمون ولا حتى في التغطية والمقاربة والتحليل، ولا في الرسم الكاريكاتوري الساخر والمعبِّر.
فليس للإعلام الجاف دور جامع ولا أثر ساطع ولا فعل لامع، سوى أن يكون إعلاماً فارغاً ويابساً وجافاً بلا دور ولا مكانة ولا حتى جمهور. إنه إعلام لا لون فاقعاً له سوى أن يكون بلا لون، بمعنى أنه إعلام خارج المكان والزمان، بعيداً من المسؤولية الواقعية والفنية الأسلوبية، وفاقداً النكهة من كل ذوَّاقة الخبر. وهذا الدور السلبي للإعلام الجاف ينعكس سلباً على مستوى التواصل الاجتماعي ومكانة الإعلام في مجتمع يمتاز بالحرّية التفكيرية وديموقراطية التعبير وإعلان المواقف الصريحة والجريئة من دون أي ضواغط وتأثيرات سلبية، من شأنها أن تحيد عن كشف الحقائق والقدرة على ملاحقة نتائجها وتقديم خدمات معرفية للناس، انطلاقاً من حقّ الجمهور في المعرفة الكاملة للحقائق ومسبباتها وتبعات الأخطاء التي يقوم بها الإعلام الجاف في عمليتي "خطيئة إخفاء الحقيقة" و "خطأ الاختباء من أخذ المواقف".
فالإعلام هو بالتعريف المجتمعي سلطة معنوية وشعبية مكمّلة لهرمية السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية. وواجب أي سلطة أن تحرص على ممارسة دورها في الحياة العامة، لا أن تستقيل من واجبها وتختبئ من وظيفتها خلف أيِّ حجة، مهما كانت الظروف التي تواجهها في مسارها المهني وواجبها الخلقي ومسؤوليتها في حماية المعرفة والانتصار للحق. وإذا أحجم إعلام عن هذا الواجب، أمسى إعلاماً أجوف ومنتجاً لأخبار جافة لا تصلح للاستهلاك.
*أستاذ جامعية