النهار

أزمة "المولد النبوي"... خلاف فقهي أم صراع سياسي؟
عمرو فاروق
المصدر: النهار العربي
تمثل مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف مدخلاً للتيارات السلفية في الإعلان عن تواجدها في قلب الشارع المصري والعربي، بتحريم الاحتفال به فرحاً أو سروراً، ووضعه في نطاق "البدعة الشّركية"
أزمة "المولد النبوي"... خلاف فقهي أم صراع سياسي؟
من احتفالات المولد النبوي في منطقة الأزهر، القاهرة. (أ ف ب)
A+   A-
تمثل مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف مدخلاً للتيارات السلفية في الإعلان عن وجودها في قلب الشارع المصري والعربي، بتحريم الاحتفال به فرحاً أو سروراً، ووضعه في نطاق "البدعة الشّركية" التي تنال من صلب العقيدة وثوابتها، خلطاً بين الأطر الفقهية والعقائدية.
 
المتمعن في قراءة العقلية السلفية يدرك أنها تدور في فلك التحريم المطلق للحلال والمباح، والتنصّل من العادات والتقاليد المجتمعية والتطاول عليها، زعماً بمخالفتها مضمون القيم الإسلامية، في محاولة فرض الوصاية الشرعية على القطاع الجماهيري، في إطار خصومة دائمة مع جوانب الحياة العملية.
 
وفي الوقت الذي لم تحرّم فيه المذهبية السلفية المعاصرة الاحتفال بشيوخها وتقديس منظّريها، تعجّ كتاباتها وأبحاثها ومؤسساتها الطباعية بمئات الفتاوى التي تُنذر بعواقب الاحتفال بـ"المولد النبوي"، وتخرج ماكينتها الإعلامية كل المؤسسات الدينية الرسمية والمدنية التي تحتفي بالمظاهر الاحتفالية من دائرة الإسلام والمسلمين.
 
إن تحويل الاحتفال بـ"المولد النبوي" من ساحة الخلافات الفقهية إلى النطاق العقائدي مدفوع في الأساس بالأهداف الأيديولوجية للمشروع السياسي للتيارات السلفية، فضلاً عن خلافها الجذري مع المدرسة الصوفية الأشعرية، لا سيما أن الحركة الوهابية وضعت في بدايتها القضاء على الصوفية ومظاهر تجلّياتها في رأس أولوياتها، وإحلالها بالمضامين السلفية، في إطار نزعتها إلى مصادرة الدين والتديّن، وهيمنتها على المذهب الفقهي والتشريعي، كممثل أوحد للشريعة ومنتسبيها.
 
تعود حالة الغلو التي صاحبت موقف التيارات السلفية ومبالغتها في تجريم احتفالات "المولد النبوي" جزئياً إلى هواجسها وتخوفاتها من التراجع الشعبي، إثر التحولات التي تنتاب الشارع المصري في ظلّ تنامي التوجه الأشعري الصوفي مجتمعياً، وتمكّنه من رأس المؤسسات الدينية رسمياً، والتي توِّجت مؤخّراً بتعيين الدكتور أسامة الأزهري وزيراً للأوقاف، واختيار الدكتور نظير عياد مفتياً للديار المصرية، فضلاً عن أن الاحتفال يمثل حدثاً جماهيرياً شعبياً، يحقّق حالة من الزخم الإعلامي والشعبي والسياسي للتيارات الصوفية، ومن ثم تبذل قصارى جهدها في وقف وإعاقة الالتفاف حول الدوائر الفكرية للمدرسة الصوفية الأشعرية، باعتبارها الفاعل والمؤثر في صناعة الحدث دينياً وتاريخياً.
 
إن امتلاك التيارات السلفية مئات المراكز والأكاديميات البحثية على منصات التواصل الاجتماعي يمثل عاملاً في اشتعال معركتها الحالية حول الاحتفال بـ"المولد النبوي"، في ظلّ تحصّنها بالشبكة العنكبوتية، وبناء مرتكزاتها الفكرية والإعلامية، المعنية بالاشتباك مع المدارس الصوفية والطعن في ممثلي المذهب الأشعري ودورهم الفاعل في العمق المجتمعي.
 
وتعدّ أزمة تحريم الاحتفال بـ"المولد النبوي" تجسيداً واضحاً لمعركة "التكفير"، والخروج عن دائرة الإسلام، في إطار الادعاء بأنها "بدعة شركية"، وأنها دليل على غربة الإسلام، وفق الإرهاصات التي طرحتها جموع "المنابر السلفية" على منصات التواصل الاجتماعي، وبناءً على ما فسّرته منهجية محمد بن عبد الوهاب في مؤلفاته. فيقول الباحث الأكاديمي البحريني علي الديري، في كتابه "إله التوحش: التكفير والسياسة الوهابية"، إن محمد بن عبد الوهاب فسّر شهادة التوحيد بمنطق غريب، وأسس لفكرة غربة الإسلام بين المسلمين، وصنع ما يُعرف بـ"مجتمع الغرباء"، الذي يستثنون فيه أغلبية المسلمين من الإسلام، ويضعونهم في دائرة التكفير.
 
مضمون الأطر الفكرية للتيارات السلفية نابع من المحتوى الفقهي للمدرسة "الوهابية"، التي لا تمثل في مجملها سوى غطاء لتمديد مشروع سياسي ديني، يعمل على اقتلاع جذور المنهج الصوفي الأشعري، من عمق المنطقة العربية، والذي بلغ ذروته في النصف الثاني من القرن الماضي، وظهور ما يُعرف بـ"تيار الصحوة الإسلامية"، وكان سبباً مباشراً في بلورة "السلفية الجهادية" ونزعتها تجاه النيل من السلطة الوطنية الزمنية وممثليها، وتقاربها شكلاً ومضموناً في إشكاليات "الفقه السياسي"، المتعلّقة بقضايا التكفير والحاكمية وجاهلية المجتمع، مع منهجية الجماعات الأصولية المسلحة.
 
في كتابه "الفكر السياسي الوهابي... قراءة تحليلية"، يرى الباحث أحمد الكاتب أن الحركة الوهّابية تنطوي على تناقض جوهري أبدي مع الديموقراطية والشورى، ما يجعلها دائماً أقلية في المجتمع تلجأ إلى العنف، ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلّا بثورة ثقافية تُعيد النظر في التصور الوهّابي للإسلام والإيمان، وفكر ابن تيمية وابن عبد الوهاب.
 
الحقيقة التي تتناساها أو تتهرّب منها "السلفية المعاصرة" هي أن الاحتفال بذكرى "المولد النبوي" في مضمونه مشروع، ولا يوجد سند شرعي في تحريمه، إذ إن السائد بين أغلب الفقهاء أن احتفالاً إن لم يكن فريضة، فإنه غير منبوذ، ويُثاب عليه صاحبه، لما فيه من مظاهر الفرح والمحبة والمديح والذكر. فقد احتفل الرسول بيوم "عاشوراء" ابتهاجاً وتعظيماً باليوم الذي نجى الله فيه النبي موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وأغرق فرعون وجنوده في البحر.  
 
واهمٌ من يعتقد أن المشروع الديني للتيارات السلفية لا يحمل في طياته توجّهاً سياسياً، في ظل اتفاق مشربها الفكري مع جماعات الأصولية الحركية والجهادية، خصوصاً أنها أطّرت للكثير من المناحي الفقهية والشرعية التي اتكأت عليها جماعات الإسلام السياسي، فضلاً عن ممارستها العملية بالانخراط في بناء الأحزاب ذات المرجعية الدينية، عقب سقوط نظام الرئيس المصري حسني مبارك، وتجييشها في تظاهرات ما عُرف بـ"جمعة تطبيق الشريعة"، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، و"غزوة الصناديق" في استفتاء 19 آذار (مارس) 2011، خلافاً لمحاصرتها مدينة الإنتاج الإعلامي، ومبنى وزارة الدفاع المصرية، ومبنى "الكاتدرائية"، ومقر المحكمة الدستورية.
 

اقرأ في النهار Premium