صعّدت إثيوبيا في نزاعها مع مصر بشأن سدّ النهضة على النيل الأزرق، برسالة إلى مجلس الأمن الدولي، رداً على شكوى القاهرة ضدّ السياسات الأحادية لأديس أبابا، والتي اعتبرتها تهديداً لاستقرار الإقليم، فدعت إثيوبيا المجلس للعلم بما وصفته تهديد مصر المتكرّر باستخدام القوة ضدّها، وطالبتها بالتخلّي عن نهجها العدواني، بينما توعّد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بأن بلاده سوف "تذلّ" أي دولة تجرؤ على تهديد سيادتها!
حرب البيانات
في المقابل، مصر كرّرت اعتراضها على الخطوات الإثيوبية الأحادية حول سدّ النهضة، والتي اعتبرتها خطراً على استقرار الإقليم والعالم. وأرسل بدر عبد العاطي، وزير الخارجية المصري، خطاباً إلى مجلس الأمن أشار فيه إلى أن أديس أبابا أفشلت المفاوضات بشأن السدّ على مدى 13 عاماً، لأنها ترغب في التفاوض بلا سقف زمني لتكريس أمر واقع، من دون إرادة للحلّ، مبيناً أنها خرقت "اتفاق المبادئ"، وتسعى إلى إضفاء الشرعية على سياساتها الأحادية المناقضة للقانون الدولي. وحذّر عبد العاطي من التأثيرات الخطيرة لهذه السياسات على دولتي المصبّ، مؤكّداً أن مصر مستعدة لاتخاذ جميع الخطوات المكفولة بموجب ميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن وجودها ومقدّرات شعبها.
ليست هذه المرّة الأولى التي تخاطب فيها مصر مجلس الأمن الدولي بشأن السدّ الإثيوبي. فقد قدّمت شكوى في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عقب انتهاء إثيوبيا من الملء الرابع للسدّ، وها هي تكرّر الفعل نفسه مع الملء الخامس. وحرصت مصر على عدم تعكير العلاقات مع دول حوض النيل، لاسيما إثيوبيا، فمارست "الصبر الاستراتيجي" قولاً وفعلاً، وأرخت حباله حتى فاض الكيل. أخطأت إثيوبيا فهم الرسالة على الوجه الصحيح، وأحسب أن الشكوى المصرية الأخيرة إلى مجلس الأمن ترمي إلى هدفين: الأول، وضع المجتمع الدولى أمام مسؤولياته فى حفظ الأمن والسلم الدوليين؛ والثاني، إبراء الذمة بشأن مستقبل تلك الأزمة التي تُلقي بظلالها الغائمة على حوض النيل والقرن الأفريقي والبحر الأحمر، في ظلّ الصلف الإثيوبي المتواصل.
يحتاج الأمر إلى تدخّل جدّي من مجلس الأمن، لفرض عقوبات على الطرف المتعنّت، بل يمكن مصر اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وطرح تصويت على قرار يؤكّد الانتهاكات الإثيوبية لحقوق مصر والسودان، أو طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول مدى شرعية التصرفات الإثيوبية الأحادية.
إفشال محاولات التفاهم
تصرّ إثيوبيا على إفشال محاولات التفاهم مع مصر والسودان، وقد زعمت في خطابها إلى مجلس الأمن أنها نفّذت "إعلان المبادئ" بشأن السدّ تماماً، وأن مطالب القاهرة في النيل "غير معقولة"، ولم تنسَ أن تضيف الجملة الخالدة: "مستعدّون لحلّ الخلافات حول النيل عبر مفاوضات حقيقية"، وترافق ذلك مع إطلاق رئيس الوزراء آبي أحمد سيلاً من التصريحات العنترية. سبق لإثيوبيا الانخراط في مباحثات بواشنطن، برعاية أميركية، بلورت مسودة اتفاقية وافقت عليها أديس أبابا بالفعل، لكنها انسحبت من التوقيع عليها في شباط (فبراير) 2020، في خطوة أحرجت الوسيط الأميركي إلى حدّ قول الرئيس السابق دونالد ترامب إنه لن يستغرب إذا قامت مصر بضرب السدّ!
تراوغ إثيوبيا، فهي لا تبني سدّاً للنهضة، بل ترصف طريقاً تسير فيه التوترات في منطقة متخمة بالأزمات، تجور على حقوق الآخرين، وعلى أرضهم ومياههم، وتريد صراعاً يكون بمثابة "جهاز اشتعال" و"خزان وقود"، يستطيع آبي أحمد أن يلعب به، لتعبئة الشعوب الإثيوبية المتناحرة في وجه عدو خارجي (متوهَّم) هو مصر.
اكتشف آبي أحمد أن بلاده على شفا حرب أهلية بين عرقياتها المتنافرة، بين ركام من بقايا حقائق وأكاذيب وبقايا أحلام وأوهام، ليس بينها "وتد" يمكنها التعلّق به إلّا اختراع عداوات مع دول الجوار واجترار الأطماع في مقدراتهم. بالأمس القريب، وقّعت إثيوبيا اتفاقاً مع إقليم "أرض الصومال"، تحصل بموجبه على ميناء وقاعدة عسكرية بحرية، مقابل اعترافها باستقلال الإقليم. غضب الصوماليون، وطردوا السفير الإثيوبي من مقديشو، وطلبوا الدعم والمعونة من مصر وآخرين لمواجهة الخطر. تريد إثيوبيا قضم الأراضي من الصومال والسودان وإريتريا والهيمنة على جيبوتي وجنوب السودان، ولهذا ترفض القاهرة النهج الإثيوبي المُثير للقلاقل، مع جيران يرغبون في تعزيز التعاون.
تهديد الأمن والسلم
تحاول القاهرة تجنّب الصراع مع إثيوبيا، وتبذل جهداً دبلوماسياً وإقليمياً ودولياً؛ لتوضيح خطورة التعنّت الإثيوبي. وأدّى ذلك إلى تصنيف أزمة سدّ النهضة تهديداً للسلم الإقليمي والدولي. حوّلت ديناميات التعامل الإثيوبي "مشكلة السدّ"، من نزاع فني حول المياه إلى ساحة تنافس على النّفوذ واستنزاف الآخرين، بالتهرّب من توقيع اتفاق قانوني مُلزم يضمن "التنمية" لإثيوبيا و"الحياة" لمصر والسودان.
تدرك مصر أن مسيرة التاريخ احتكاك مطالب ومصالح، ضغوط مشاق ومصاعب، لكنها تعلم أيضاً أن الحركة بغير حكمة في مثل هذا الواقع ردّة فعل لا إرادية، هي أقرب إلى التشنج منها إلى الفعل الواعي، مثلما أن الخوف ليس مطلوباً عندما تكون فرص النجاة ضئيلة. في الفترة الأخيرة، بدأت القاهرة في تغيير نهجها، وهي تنخرط في بناء شراكات أمنية واقتصادية وسياسية وعسكرية مع الدول المحيطة بإثيوبيا، لضمان ديمومة التأثير المصري في القرن الأفريقي وحوض النيل، وبذلك تبعث مصر برسالة واضحة: إنها لن تقف مكتوفة أمام أي تهديد لمصالحها الحيوية، خصوصاً حصتها في مياه النيل. يندرج في هذا الإطار الاتّفاق العسكري مع الصّومال، وزيارة رئيس المخابرات العامة اللواء عباس كامل ووزير الخارجية بدر عبد العاطي إلى إريتريا مطلع الإسبوع الجاري، وتأكيد البلدين ضرورة الحفاظ على وحدة الصومال، في رسالة بعلم الوصول في "بريد إثيوبيا" المتحفّزة.
صحيحٌ أن الدولة المصرية تواجه تحدّيات شديدة التعقيد في ضوء العدوان الإسرائيلي على غزة شرقاً، والانقسام الليبي غرباً، والاحتراب السوداني جنوباً، وهجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر وتأثيرها في موارد قناة السويس، وهذه كلها محدّدات تؤثر سلباً في ديناميكية التحرّك السياسي والاقتصادي والعسكري لمصر، لكن تفاعلات النظام الدولي في المرحلة الراهنة قد تقلّل صور الدعم الإقليمي والدولي الكبير لإثيوبيا، في ظلّ الحالة الصراعية بين الغرب وروسيا، ما يمنح القاهرة فرصةً لمحاصرة أديس أبابا، وإعادة التوازن إلى المعادلة الأمنية والسياسية بالإقليم. على الرغم من ذلك، فإن الاتفاق مع إثيوبيا يبدو بعيد المنال، ما يجعل الوضع قلقاً قابلاً للانفجار في أي لحظة!