النهار

قراءة هادئة في دمنا اللبناني النازف
غاندي المهتار
المصدر: النهار العربي
اعترف السيّد حسن نصرالله، أمين عام "حزب الله"، بفداحة الخسارة التي تكبّدها في "مجزرة البيجر" في يوم الثلاثاء 17 الجاري، وملحقها في اليوم التالي.
قراءة هادئة في دمنا اللبناني النازف
تشييع عنصر في "حزب الله" قُتل بانفجار جهاز اتصال في جنوب لبنان، 19 أيلول (سبتمبر) 2024 (أ ف ب)
A+   A-
"لا شكّ في أننا تعرّضنا لضربة كبيرة، أمنياً وإنسانياً، وغير مسبوقة في تاريخ لبنان". هكذا اعترف السيّد حسن نصرالله، أمين عام "حزب الله"، بفداحة الخسارة التي تكبّدها في "مجزرة البيجر" في يوم الثلاثاء 17 الجاري، وملحقها في اليوم التالي.
 
الأرقام صادمة فعلياً، إن توقفنا عند اعتراف وزارة الصحة اللبنانية بمقتل 36 لبنانياً وإصابة نحو 4000 آخرين بجراح، بينهم نحو 400 إصابة بليغة... أو سمعنا سليمان هارون، نقيب أصحاب المستشفيات في لبنان، يقول في تصريح صحافي إن هذه المستشفيات استقبلت نحو 7000 حالة... أو مصدراً في أحد المستشفيات يقول إن بين الجرحى نحو 2000 أصيبوا بعجز شبه دائم، أعمار أغلبهم بين 19 و27 عاماً، فقدوا البصر كلياً أو جزئياً، أو أجزاء من أيديهم. 
 
أياً كان الموقف من تورط "حزب الله" في الحرب الإسرائيلية على غزة، ومن جرّ لبنان إلى حربٍ قد تتسع لتحوله إلى غزة ثانية، بشهادة شريط من البلدات الحدودية التي حولتها الغارات الإسرائيلية إلى مناطق غير قابلة للعيش، لا بدّ من الاعتراف بأن إسرائيل تمكنت بكبسة زر واحدة، وهي واقفة "على رجل ونص"، أن تشلّ شريحة كبيرة من الشباب اللبناني المنتج، بغض النظر عن انتمائهم الأيديولوجي. ولهذا الأمر تبعات قد لا نتنبّه إليها اليوم، في عزّ صدمتنا، لكن ستنعكس سلباً على المديين المتوسط والبعيد، اقتصادياً واجتماعياً. فهذا مستقبلنا الذي كمنت له إسرائيل في مكان ما بين المجر ولبنان، واغتالته في أشد العمليات الاستخبارية إجراماً. 
 
الردّ على هذا "الاغتيال" الإسرائيلي للشباب اللبناني عن سبق إصرار وترصّد مهمّ، لكن الأهم كثيراً الآن أن ننقذ ما تبقّى من البلاد، وأن نقتنع جميعاً بأنه واهم من ينتظر من إسرائيل غير هذا السلوك. إن اتهام نصرالله تل أبيب بالسعي إلى تنفيذ عملية إبادة جماعية بمحاولة قتل 4000 مواطن لبناني في لحظة واحدة هو اتهام نافل، فبعد نحو 60 ألف قتيل مدني فلسطيني وإبادة عائلات غزاوية عن بكرة أبيها، ما عاد منتظراً من إسرائيل ألّا تنتهز أي فرصة تتاح لها كي تبرهن عن قدراتها الإجرامية وسلوكها القاتل. 
 
علينا، من ناحيتنا، أن نرى المسألة بوضوح وتجرّد. ثمة وجه شبه بين عمليتي "17 سبتمبر" في لبنان و"11 سبتمبر" في أميركا. أذكر أن وودي آلان، ذاك الممثل والمخرج الأميركي الفذّ، نظر إلى محاوره يوماً وقال: "ليست ’القاعدة’ وحدها سبب نكبتنا في 11 سبتمبر، فنحن أيضاً نكبنا أنفسنا". فعلى مدى عقود، زيّن صُنّاع السينما في هوليوود للأميركيين فكرة الـ"سوبر- هيرو" الأميركي، البطل القادر على حماية أميركا وحده، وهزيمة أعدائها وحده، والدفاع عن الديموقراطية في العالم وحده، والمنافحة عن الحرّيات في العالم وحده، وإطاحة المستبدين عن عروشهم وحده، وإعادة الحقوق السليبة وحده، وتدمير الجيوش الجرارة في الميدان وحده.
 
تربّت أجيال كاملة من الأميركيين على بطولات "رامبو" في أفغانستان، حيث دحر جيشاً جراراً من الروس وهو جريح نازف على صهوة جواد... وعلى أساطير أرنولد شوارزينغر وجايسون ستاثام وبروس ويليس وتوم كروز وميل غيبسون، وغيرهم ممن رسخوا في أذهان الأميركيين صورة البطل القهار الذي لا يُقهر. كان ابتكار هذه الشخصيات بمنزلة رسالة أرادت أميركا أن ترسلها إلى كل أعدائها، وبعض أصدقائها أيضاً، مفادها: هذا تمثيل لواقع نريد العالم أن يرى بعضه، كي لا يراه كله! وحين انقضّت الطائرات على البرجين في نيويورك في 11 سبتمبر، وقف الأميركيون مذهولين. ما فُجعوا بالعملية ذاتها بمقدار ما فُجعوا باستيقاظهم من حلم البطولات. وكرّت سبحة الفواجع الأميركية: العراق وأفغانستان وسوريا.
 
منذ التحرير في 25 أيار (مايو) 2000، سيطر شعور بفائض القوة على "حزب الله"، وقاد سلوكه في تناول المسائل اللبنانية الداخلية وفي مقدّمها عرقلة انتخاب رئيس للجمهورية، وفي الأزمات الإقليمية كتدخّله في الحرب السورية. انسحب هذا الشعور بالقوة على الهرم القيادي كله في الحزب، حتى صار الخطاب متعالياً، ومغالياً أحياناً في التعبير عن قوة "حزب الله" وقدراته القتالية، فصار حامي البلاد من الإسرائيلي والأميركي والإرهاب الجهادي، وصار يهاجم العرب ويهدّد قبرص، وهذا كله وحده، حتى تحول أصغر مقاتل في صفوفه إلى "سوبر-هيرو" لبناني يُهاب ولا يهاب أحداً. 
 
في هذه المغالاة ثغرات تُرجمت أخطاء مميتة، من استخدام الهاتف الذكي الذي مكّن إسرائيل من استهداف قيادات عليا في الحزب، آخرهم رئيس أركانه فؤاد شكر، وحتى الاختراق الاستخباري الذي تسبب بالكارثة. وهذا، من دون أي شك، سيُترجم صدمة مكتومة في بيئة الحزب نفسه، قد لا تتبلور سريعاً، لكنها ستظهر لاحقاً، تماماً كما ظهرت أسئلة كثيرة عن جدوى فقدان نحو 2000 مقاتل في سوريا، صمتت سريعاً.
 
ربما علينا جميعاً، من والى "حزب الله" ومن عارضه، ومن اقتنع بدوره في حماية لبنان ومن يريد تنفيذ القرار 1701، أن نعود خطوة تكتيكية إلى الوراء، وقراءة ما حصل قراءةً دقيقة، وأن نتمسّك بوحدةٍ وطنية حقيقية لا تقتصر على ساعات المحن، ولو مرة واحدة وحيدة في تاريخنا، وإلّا فقدنا البلد استراتيجياً، إلى الأبد.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium