تعود معركة الشعارات في صنعاء بشكل يدلّل إلى صراع عميق لا يُخفى على أحد. فقد أشعل الحوثي بذرة الخلاف في إعلانه تقسيم المجتمع إلى مجاهدين وكفار.
أما المجاهدون فهم أنصاره من التنظيم، وأما الكفار فكل الشعب وما تبقّى من العالم. وجعل الاحتفاء بالمولد النبوي هو مؤشر الإيمان والكفر.
والاحتفال لم يعد هو ذاك المناسبة الدينية التي جُبل الكل على الاحتفاء بها ومن دون إكراه أو تخندق سياسي، بل هي الآن في صنعاء مظهر سياسي واضح وولاء حزبي معلن.
فالمطلوب لتثبت إيمانك إظهار الولاء السياسي المطلق للجماعة.
وفي ما مضى بقي الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف في كل اليمن مثل سائر الاقطار العربية، تعظيماً لسيرة المصطفى صلوات الله عليه وسلم، وفرصة لتعزيز روح المحبة والسلام بين الناس، وبمظاهر يغلب عليها الفرح وإظهار التقوى من ملابس براقة وتوزيع حلوى ومدائح النشيد الصوفي.
هذا الأمر تغيّر في صنعاء منذ بضع سنوات، وصار الآن مناسبة لتكريس الولاء السياسي، وخلق انقسام مجتمعي ومظاهره لصرخة خطاب تجييش للحشود المقاتلة ضدّ المجتمع وأفراده.
واللافت هو تهافت كثير من النخبة في الذهاب نحو الخرافة إلى أبعد مدى، وظهرت مشاهد الاحتفاء بصور مضحكة مؤلمة كأننا في فيلم الأموات الأحياء والزومبي.
والأكثر ألماً، ذهاب نخبة إعلامية وسياسية لتأكيد انجرافها، واعتبار الأمر إنجازاً وبطولة. وذلك إما عبر التمجيد المباشر لحالة الجنون هذه، أو غضّ الطرف والإمعان في نقد المعارضين للتوجّه الحوثي، والنيل من مؤسسات الدولة الشرعية فقط، (من دون أي نقد شجاع وموضوعي لكل أطراف مشروع الطائفية المتشدّدة) لصرف الأنظار عن كارثية المشهد والإبقاء على مصالح لا تستحق الثمن الضخم الذي يدفعه الوطن، مع ميليشيات تكرّس مشروع الدمار لليمن المنكوب بصرخة الموت.
نعم، الأمر ليس بحاجة إلى وقفة تردّد في الإجابة عن سؤال إلى أين يقود مشروع الميليشيات اليمن؟ فتفاصيل الصورة معلنة للمرحلة القادمة، معلنة من الآن، إذا استمرت هيمنة الميليشيات.
ومن رأى حالة الآف الناس شبه عراة مطلية أجسادهم بالطلاء الأخضر ويضعون مصابيح خضراء على رؤوسهم، يصرخون في المجهول ضدّ الكفار، يدرك مشهد العزلة القاتلة التي تعاني منها صنعاء، وكذلك عندما نرى شخصيات حزبية وإعلامية تمجد ذلك علانية أو عبر صمت هو أكثر صراحة من كل قول، وعبر تخادم لا يحتاج عناء لكشف وضوحه بين الميليشيات والرؤى المنغلقة والمصالح الضيّقة.
وعند تسخير أكبر حملات الإعلام على أن ذلك نصر مبين للمؤمنين ضدّ كفار الكون، ندرك مدى حجم المأساة المقبلة، وصعوبة التحدّي القادم أمام يمن الحكمة والإيمان.
إنه تحدّ يحتاج إلى وقفة شجاعة مع الذات، بخاصة أن معظم الشارع ما زال يتطلع إلى عودة الوطن اليمني المتماسك والمتسامح.
ونرى ذلك بثبات العامة مع كل نداء وطني. وما ردّ الأغلبية الغاضبة في الشارع اليمني ضدّ توظيف المولد النبوي الشريف سياسياً، عبر رفع مستوى الاحتفاء بثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962، والتذكير بأهدافها، سوى رفض عفوي لخطاب الحوثي.
وهو عمل جيد ولكنه مجرد ردّ فعل وخطوة في مسار صعب لا بدّ من خوض غماره الآن، عبر إعادة الإعتبار لمشروع الوطن اليمني الذي تحاصره صراعات لا تتوقف، وأول ما نحتاجه دعوة النخبة التي يتبخر دورها، بل وحتى حضورها الفعلي، في موقف تشظ لا معنى له، والبدء ببرامج عمل حقيقية لإعادة البوصلة نحو مشروع سياسي لا يوقف الصراع فقط، ولكن يوقف الانجرار نحو هذا الضياع لجيل كامل يذهب بقوة إلى هاوية الخرافة.
إن الخطوة الأولى والأهم هي موقفنا الرافض لخطاب الكراهية والتشظي، ورفضنا لمشاريع تقول صراحة إنها ضدّ العقل والمساواة، وضدّ الحرّيات وضدّ وحدة الأمة.
موقف النخبة ضدّ الاستقواء بقوة سلاح منفلت لن يحسم الأمور بالنصر المبين كما يعتقد البعض، مدركين أن أي مشاريع تدعو إلى التشظي لن تحمل غير مزيد من الضياع والاضطراب وطنياً وإقليمياً.
و الأهم هو عودة صوت العقل عبر نخبة شجاعة، تغادر مقاعد المتفرجين، وإعادة توجيه بوصلة الحاضنة التي تناصر الميليشيات بالقوة والمال والصمت، لتكون مع الوطن لا مع الرؤية الضيّقة للمنطقة والمذهب.
فالحرب تعلمنا أن الشر ينتصر إذا وقف الأخيار على الحياد وبقي صوت الخير وحيداً.