النهار

"التصوف" المُفترى عليه والمفتري علينا
عمرو فاروق
المصدر: النهار العربي
حالة من الانقسام شهدها الشارع المصري على مدار الأيام الماضية، حول "التصوف" في ظل هجوم منظم من تيارات الإسلام السياسي (الحركة السلفية وجماعة الإخوان المسلمين)، منذ اتهام الشيخ صلاح الدين التيجاني، أحد رموز الطرق الصوفية، بالتحرش بإحدى الفتيات (مازالت القضية منظورة أمام جهات التحقيق)، والتي اعتبرت الواقعة بمثابة فرصة سانحة لضرب قوة المد الصوفي وتأثيره المتزايد في الآونة الأخيرة.
"التصوف" المُفترى عليه والمفتري علينا
الشيخ صلاح الدين التيجاني
A+   A-

حالة من الانقسام شهدها الشارع المصري على مدار الأيام الماضية، حول "التصوف" في ظل هجوم منظم من تيارات الإسلام السياسي (الحركة السلفية وجماعة الإخوان المسلمين)، منذ اتهام الشيخ صلاح الدين التيجاني، أحد رموز الطرق الصوفية، بالتحرش بإحدى الفتيات (مازالت القضية منظورة أمام جهات التحقيق)، والتي اعتبرت الواقعة بمثابة فرصة سانحة لضرب قوة المد الصوفي وتأثيره المتزايد في الآونة الأخيرة.

الخلط بين فعلة مشينة لأحد رموز "الصوفية الطرقية"، وبين التيار الصوفي ومنهجه الفكري، ليس من الإنصاف وفيه نوع من الافتراء، فتعميم الجريمة الشخصية تجن وتعد على بقية أفراد المجتمع، فالحركة الصوفية التقليدية والعلمية، جزء ليس بالقليل من الشارع المصري، كما أن التجاوزات الجنسية وغير الأخلاقية للجماعات الأصولية لا يمكن حصرها، وتاريخها ممتلئ بعشرات الوقائع المخجلة.

تحويل دفة الغضب الشعبي ضد جريمة "التحرش" وفاعله، إلى معركة دينية للنيل من الرمزية الصوفية، مدفوعة في الأساس من مجاذيب الوهابية في ظل تراجع الفاعلية الدينية والمجتمعية لمشايخ التيارات السلفية خلال تلك المرحلة الزمنية، الى جانب تنامي الدور الوطني والدعوي لـ"الصوفية العلمية" ودعمها الدائم لمفاهيم الدولة الوطنية، فضلاً عن اعتبارها جزءا أصيلاً من تركيبة النظام السياسي الحاكم.

ارتباط "الصوفية الطرقية" بالتراث الشعبي المصري جعلها تتشبع بحالة فولكلورية ممتلئة بالمغالطات والانحرافات السلوكية والفكرية التي تحتاج إلى وقفة تعيدها إلى مسارها السليم، لا سيما في ظل وقوعها بين سندان العوام والجهال، ومطرقة أتباع الحركة الوهابية التي تكيل لها الاتهامات وتصفها بالبدعة الشركية، ومن ثم عليها استغلال المشهد الراهن، والاستفاقة من هبوطها وتخبطها الفكري والروحي، والعمل على توظيف مختلف الدراسات والأبحاث والكتيبات التي تناولت مشاكلها وأزماتها وفندتها بمشرح الطبيب، وصقلتها بعشرات الحلول التي تقيها من الوقوع في براثن الخرافة، لما للمنهجية الصوفية من دور فاعل في الداخل المصري على المستويات التاريخية والسياسية والدعوية.

تغليب "الصوفية الطرقية" العلوم الباطنية على علوم الظاهر أو علوم الشريعة، في طقوسها الدينية، يمثل معضلة كبيرة-وهذه النقطة تحديداً لا يتسع الوقت لشروح تفاصيلها-، إذ أن تجليات الطريق ونفحاته، في المجمل تخص أصحابها، وليست من الأمور العقائدية، أو محل نقاش أو حوار، لا سيما أنها من سمات أهل الخفاء، ومن يجهر بها فهو لا محالة من المدعين.

شمولية روابط العلاقة بين الشيخ والمريد في "الصوفية الطرقية"، على المستوى التربوي والروحي والعلمي، تمثل نقطة محورية في جدلية التسليم والخضوع، وانتقالها من إطار الإرشاد والتزكية الروحية والعبادية، إلى الجوانب الحياتية والخاصة، ما يعني ضرورة خضوعها إلى المراجعة لوقف "حالة التقديس" في إطار ضبط العلاقة المعقدة بين الشيخ والمريد.

مراجعة الحالة الصوفية الطرقية ربما تحتاج من القائمين على الدولة المصرية، تشكيل لجنة محايدة، من كبار علماء المؤسسة الأزهرية، ودار الإفتاء، ووزارة الأوقاف، وعدد من رجالات المجلس الأعلى للطرق الصوفية، لإعادة النظر في وضعية أكثر من 80  طريقة صوفية ومنهجيتها ، مع حظر تولي رئاسة الطريقة وفروعها، على من لم يتلق دراسة العلوم الشرعية، حتى يصبح مؤهلا للتربية والتلقين والتزكية، مع وقف فكرة "توريث الإمامة"، إلا على من تتوافر فيه الشروط، وكذلك سحب ترخيص أي طريقة صوفية وتجميد نشاطها في حال اعتمادها على "اللغة السريانية" في أذكارها وأورادها، أو ارتداء ملابس تخالف الذوق العام، والهوية المصرية وطابعها الثقافي، أو ادعاء مشايخها الكرامة أو القداسة أو التفرد العلمي أو الشرعي، مع مراعاة تشديد الرقابة الأمنية على أي تجاوزات من القائمين على الساحة الصوفية وممثليها.

الأزمة الأخيرة التي انتابت الساحة "الصوفية الطرقية"، أظن -وبعض الظن حسن- أنها ستمثل عاملاً إيجابياً في توسيع وانتشار "الصوفية العلمية" أو "الصوفية المتشرعة"، في العمق المجتمعي، والتي يمثلها الدكتور أسامة الأزهري والدكتور علي جمعة والدكتور محمد مهنا والشيخ حسن الشافعي والدكتور عمرو الورداني والدكتور مجدي عاشور، ومن أبرز رموزها الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمد زكي إبراهيم وغيرهما، ولن تمثل عاملاً سلبياً مثلما تذهب مختلف التصورات والاجتهادات التي كتبت عن هذه اللحظة.

في الغالب، الفئة التي تصف أهل التصوف بالفرقة المبتدعة الضالة، وترميها بالكفر والضلال، لا تعلم عن التصوف سوى اسمه، ولم تتعرف الى حقيقة جوهره، وتدور في فلك اتباع ابن عبد الوهاب وابن تيمية، ولم تكلف نفسها عناء البحث والتحري والمشاهدة والاطلاع، أو قراءة كتاب واحد حول معرفة التصوف وماهيته، مثل "مفاهيم يجب أن تصحح"، للشيخ محمد علوي المالكي (أحد علماء المملكة العربية السعودية)، وكتاب "المتشددون" للدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق، وكتاب "قضية التصوف.. المنقذ من الضلال" للدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر السابق، وكتب" يا ولدي.. مختارات في معاني التصوف"، و"أبجديات التصوف الإسلامي"، للشيخ محمد زكي إبراهيم، وكتاب "قصتي مع التصوف" للدكتور خالد محمد خالد، وكتاب "حقائق عن التصوف" لعبد القادر عيسى، وكتاب "مدخل إلى التصوف الإسلامي" لمحمود أبو الفيض المنوفي، وكتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، وغيرهم.

ليس من الضروري أن ينتمي كل متصوف علمي إلى طريقة صوفية، فالكثير من أبناء هذا التيار ينتهجون المذهب الصوفي في إطار المعرفة الروحية والتزكية النفسية من خلال قراءة الأوراد والأذكار اليومية التي تتخطى الآلاف من صيغ الاستغفار والتهليل والتكبير والتحميد، والصلاة على النبي محمد ﷺ، وحضور حلقات الذكر والمديح، والمداومة على زيارة آل البيت ومحبتهم، والالتزام بالعبادات المفروضة ونوافلها، في ما يعرف بـ"التصوف الفردي" في مقابل "التصوف الطرقي".

المدرسة الصوفية العلمية أو الشرعية تمثل صمام الأمان، في وقف تمدد التيارات الأصولية بتنوعاتها، وتجفيف منابع التطرف والإرهاب الفكري والعقائدي التي مازالت تمارسها التيارات السلفية وأخواتها، وتهدد بناء الدولة الوطنية، وتعمل على النيل من هويتها الفكرية والثقافية، فضلاً عن أن التصوف يصنع جسوراً من التواصل بين مختلف الديانات والثقافات والحضارات الأخرى، من خلال إعلاء قيمة الإنسانية.

  
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium