تجاوزت الولايات المتحدة كل الحدود والأعراف فى التعامل مع جرائم إسرائيل ضد العرب في غزة والضفة ولبنان وغيرها. في كل مرة تعلن واشنطن مبادرة لوقف النار بالتنسيق مع نتنياهو يخرج الأخير متهرباً من التزاماته، فيأتي الرد الأميركي في صورة مساعدات عسكرية ومالية ضخمة، آخرها حزمة مساعدات بنحو 9 مليارات دولار؛ للحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة.
يحلو للغرب أن يظهر وكأنه "حامي حقوق الإنسان" في العالم، لكنه يقف متفرجاً عندما تُنتهك حقوق الإنسان العربي، تطهير عرقي وقتل، كيل بمكيالين، فما سر العلاقة المريبة والدعم الأعمى من جانب أميركا والغرب لإسرائيل، ما يجعل جرائمها بلا نهاية؟!
لعبة المصالح
عندما هاجمت روسيا أوكرانيا حشدت الولايات المتحدة دعم الحلفاء، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وإعلامياً لمعاقبة موسكو. اتخذت الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو إجراءات غير مسبوقة لخنقها عسكرياً وإذلالها اقتصادياً وسياسياً ومصادرة أرصدتها واستثماراتها، هذا بالطبع أحد وجوه "لعبة المصالح"... وجه آخر للعبة نجده في الشرق الأوسط، المنطقة الملتهبة، تدعم واشنطن إسرائيل، منذ نشأتها باغتصاب فلسطين عام 1947. كانت من أولى الدول التي اعترفت بها، أسباب كثيرة طرحت طوال عقود لتفسير هذا الدعم النادر في خريطة العلاقات الدولية، بعضهم يرجعه إلى الترابط الديني بين الصهيونية والبروتستانتية، أو إلى التحالف القائم على المصالح الإستراتيجية بينهما. تؤمن جماعات إنجيلية بضرورة التعجيل بسيطرة إسرائيل على كل أرض فلسطين المقدسة إيماناً منها بأن هذا يسرع من عودة المسيح الثانية، تعتبر الأصولية البروتستانتية فلسطين الوطن الذي أعطاه الله لبني إسرائيل؛ من أجل تحقيق النبوءات التوراتية. بالإضافة إلى العامل الديني، لا يمكن إغفال الدور البارز للوبي الصهيوني وجماعات الضغط اليهودية الأميركية، لدرجة أن شعبية إسرائيل في أميركا تفوق شعبية الرئيس الأميركي نفسه؛ لذلك تشيع في العالم العربي فكرة أن تل أبيب تقود واشنطن، ومن ثمّ العالم كله، بالنظر إلى تأثير اليهود في مفاصل الإدارات الأميركية الديموقراطية أو الجمهورية.
تدين إسرائيل بولادتها بدرجة كبيرة للامبراطورية البريطانية. تبنت لندن المشروع الصهيوني للدفاع عن مصالحها الاستعمارية، بعد اتفاقيات سايكس - بيكو ووعد بلفور، لكن مع تغير موازين القوى عقب الحرب العالمية الثانية، ربطت الصهيونية العالمية مصيرها بالامبراطورية الأميركية. تحتاج إسرائيل لأميركا كي تبقى على قيد الحياة، وتحتاج أميركا إلى إسرائيل لكي تبقى في المنطقة... لم يكن بإمكان إسرائيل أن تظهر كدولة، أو تصبح قوة عسكرية نووية لولا دعم واشنطن؛ لا تملك الأخيرة دولة أخرى يمكنها الاعتماد عليها بكل ثقة لتحقيق أهدافها الإمبريالية في الشرق الأوسط مثل إسرائيل، وبوصول جورج بوش الابن للبيت الأبيض، وولادة "مشروع القرن الأميركي" على يد المحافظين الجدد، برزت الحاجة إلى ترجمته واقعاً استعمارياً، بغطاء إيديولوجي، أضحت "الصهيونية - المسيحية" إيديولوجية هذا المشروع الامبراطوري، وصنوه الإقليمي "إسرائيل الكبرى"؛ نهج لا يزال مستمراً لدرجة أن الرئيس الأميركي جو بايدن قال عندما كان نائباً للرئيس أوباما: "لو لم تكن هناك دولة إسرائيل، لكان علينا أن نخترعها للتأكد من حماية مصالحنا"!
مفاتيح واشنطن
كل ذلك يدفع الفكر السياسي العربي إلى التسليم التام بأن تل أبيب تملك "مفاتيح واشنطن" أو أنها الباب الملكي إليها؛ ما يفسر حالة العجز والصدمة "شبه الدائمة" عربياً إزاء العدوان الإسرائيلي المتكرر على شعوب عربية، بخاصة أن الدولة العبرية حرصت على تغذية هذا الشعور، وتضخيم نفوذ اللوبي اليهودي في أميركا بهدف تخويف أعداء إسرائيل وإظهارها بمظهر القوي المتحكم في القرار الأميركي؛ حتى ييأس العرب والمسلمون من إمكان التأثير في الرأي العام والسياسة الخارجية الأميركية المنحازة إلى إسرائيل.
المؤسف أن كثيراً من التصورات الرائجة في الكتابات السياسية العربية دأبت على تقديم الولايات المتحدة أمة تستحق الإشفاق، وكأن قراراتها تصنع على يد طباخي اللوبي الصهيوني، مبالغة تصل إلى حد "المغالطة" وتنطوي على تبرئة ذمة الولايات المتحدة مما يجري في الشرق الأوسط، من توترات وكوارث، وكأن الرئيس الأميركي ديموقراطياً كان أو جمهورياً، يتم إرغامه على انتهاج سياسة خارجية معادية لمصالح بلاده والانبطاح لإسرائيل؛ في حين أن حقيقة السياسة الأميركية في المنطقة تنسجم مع سياسة الإمبراطورية الأميركية في كل أصقاع الأرض؛ اعتماداً على الطغيان وصيانة المصالح الاقتصادية، وبالتالي فإن الأميركيين - وليس الصهاينة - هم المسؤولون عن هذه السياسات؛ إسرائيل ليست سوى أداة أميركية، تقوم بدور وظيفي لحماية المصالح الاستراتيجية لواشنطن في الشرق الأوسط... ويتعاظم دور "الأداة" لتتحول إلى عصا غليظة لإخضاع شعوب المنطقة وتنفيذ مخطط الهيمنة الأميركي؛ إسرائيل "دولة وظيفية" في خدمة الامبراطورية الأميركية.
القناعات الزائفة
إن المواقف العربية التي تضخم دور اللوبي الصهيوني في أميركا؛ تنبع من حرصها على عدم التصادم مع السياسة الأميركية المنحازة بطبيعتها، والمعادية لتطلعات الشعوب العربية في الحرية والاستقلال والتقدم، تريد أن تقنع هذه الشعوب بعدم جدوى خوض الصراع مع أميركا ما دام هناك لوبي صهيوني مسيطر في واشنطن، لكن ما يبطل هذه الحجة أن قطاعات مؤثرة في العواصم الغربية بدأت تلتفت إلى خطورة العدوانية الإسرائيلية، كتب السيناتور البارز بيرني ساندرز، في "نيويورك تايمز"، أنه "مع التسليم بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ماذا عن حقوق الفلسطينيين أيضاً؟!".
معنى ذلك أن العرب كل العرب مدعوون الى النظر في "الأوراق الثقيلة" التي يحوزونها، ويمكنها قلب معادلات المشهد لو توحدت إرادتهم، وفقا للعبة المصالح، ومقولة "الصديق عند الضيق" و"ما حك ظهرك مثل ظفرك"، على العرب أن يفعّلوا عناصر قوتهم الشاملة، ليس بالضرورة بخوض الحروب، بل بطرق كثيرة قبل ذلك، بالتنمية والتقدم والحكم الرشيد. إسرائيل "دولة إرهابية" تعاني نقاط ضعف خطيرة، رغم فائض القوة والغطرسة البادية عليها، صحيح أنها رأس الحربة الأميركية، لكن هذا الوضع يمكن أن يتغير غداً، لو فهمت إسرائيل أن احتلالها لا مستقبل له، وأن عليها أن تتبع مساراً سلمياً توافقياً مع الفلسطينيين والدول العربية؛ وأن العدوان الذي تمارسه حاليا يتعلق باحتياجات أميركا؛ فإذا تخلت عنها هذه الأخيرة يوماً؛ فلن تبقى إسرائيل على قيد الحياة إلا باتباع نهج السلام العادل والشامل مع العرب.
وذاك حديث آخر...