الاضطرابات وأعمال العنف التي عمّت لأيام مختلف أرجاء أرخبيل كاليدونيا الجديدة، كانت كفيلة بتحرك الأجهزة الفرنسيّة كلها، الأمنية والعسكرية والسياسية. وبعد إرسال طائرات لإجلاء السيّاح، حطّت أخرى رئاسية على متنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
بالنسبة لباريس، ما يحدث في هذا الأرخبيل، الذي هو جزء من الأراضي الفرنسية ما وراء البحار، مسألة تتخطّى أسباب النزاع الحالي القائم على خلفية الاستفتاء لإعلان الاستقلال.
الأرخبيل هو مستعمرة فرنسية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ويدور فيه جدل سياسي عمّا إذا كان ينبغي أن يكون جزءاً من فرنسا، أو أن يتمتع بحكم ذاتي أو استقلال، وسط انقسام في الآراء على خلفية عرقية.
وأجرت السلطات أكثر من استفتاء في العقود الأربعة الماضية، حول هذه القضية الجدلية والمصيرية. وأكثر الأحداث خطورة للحكم الفرنسي كانت تلك التي وقعت في ثمانينات القرن الماضي، مع اندلاع انتفاضة عنيفة دفعت السلطات الفرنسية الى إصدار أوامر لقواتها بقمعها، وأدّت إلى مقتل العشرات معظمهم من السكان الأصليين، الكاناك.
في محاولة لإنهاء دورة العنف هذه التي استمرت قرابة عام، وأخذت طابع حرب أهلية، قدّمت الحكومة الفرنسية ضمانات لوضع كاليدونيا الجديدة على طريق الاستقلال، بما عُرف بـ"اتفاق نوميا" وهي عاصمة الإقليم الفرنسي. وبموجب الاتفاق وضعت خطة تمتد على 20 عاماً لإنهاء الاستعمار بشكل تدريجيّ. وكان آخر استفتاء على طريق الاستقلال عام 2021، وجاءت النتائج بنسبة تفوق 95 في المئة لصالح البقاء ضمن فرنسا، ورفض الاستقلال. لكنّ هذه النتيجة أثارت استياء الأطراف المطالبة بالاستقلال، وتحديداً في أوساط الكاناك الذين قاطعوا التصويت.
وبينما لا تزال تداعيات هذا الاستفتاء قائمة، وافق البرلمان الفرنسي على إدخال تعديلات في دستور كاليدونيا الجديدة، تسمح للوافدين للإقليم الذين عاشوا في الأرخبيل لمدة 10 سنوات على الأقل، ولجميع أولئك الذين ولدوا هناك قبل أكثر من 10 سنوات أيضاً، بالتصويت في الانتخابات الإقليمية. وأغلبية هؤلاء من الفرنسيين، ما يعني بالنسبة للسكان الأصليين إضعاف فرصهم لتحقيق الاستقلال المنشود.
وهذا ما فجرّ موجة جديدة من العنف اندلعت في 13 أيار (مايو) الجاري، مذّكرة الى حدّ بعيد بأحداث الثمانينات من القرن الماضي.
لكن ما الذي دفع بفرنسا إلى الالتفاف على خطة العشرين عاماً للاستقلال؟
في تموز (يوليو) الماضي، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كاليدونيا الجديدة، وقال أمام حشد من المعارضين للاستقلال إنّ "كاليدونيا الجديدة فرنسيّة لأنّها اختارت أن تظل فرنسية ولا عودة الى التردّد"، في إشارة إلى نتائج الاستفتاء الأخير.
غير أنّ الارتكاز إلى نتائج استفتاء عام 2021، ليس سوى "الذريعة القانونية" لمواجهة التغييرات الجيوسياسية التي نشأت في السنوات الأخيرة مع خروج العملاق الآسيوي من حدوده الجغرافية ليمتد نفوذه على طريق الحرير.
وبعد أن عاش العالم "سكرة" انتهاء الحرب الباردة، عاد ليعيش هذا الصراع بين الولايات المتحدة والصين. ولمواجهة المبادرة الصينيّة "الطريق والحزام" فعّلت واشنطن خطة مواجهة ركيزتها المحيطان الهندي والهادئ.
ومع اشتداد هذا الصراع، وتشكيل تكتلات في المحيط الهادئ لمواجهة التنين الصيني، مثل تحالف "العيون الخمس" مع أستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا وكندا، وما رافق ذلك من إلغاء لصفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا لصالح أخرى أميركية وبريطانية، تبدّلت الحسابات عند مراكز القرار في باريس، إذ بات هناك خشية من أن تكتسب الصين نفوذاً في كاليدونيا الجديدة المستقلة، تماماً كما سعت إلى القيام بذلك في دول أخرى في جنوب المحيط الهادئ مثل فانواتو وجزر سليمان.
والصراع مع الصين يمتد كذلك إلى المخزون الكبير من معدن النيكل، في الأرخبيل، والذي يقدّر بنحو 25 في المئة من الاحتياطي العالمي، وما تخشاه فرنسا، أن الصين تُعدّ من المنافسين الرئيسيين على معدن النيكل الذي يُستخدم في صناعة البطاريات.
وهذا ما عبّر عنه بوضوح السيناتور الفرنسي كلود مالوريه، في مقابلة مع وكالة "فرانس برس"، من أنّ "الصين تريد أن تكون في ساحتها الخلفية في بحر الصين، ولكن أيضا مهيمنة في المحيط الهادئ، فهي تحتاج إلى النيكل لإنتاج بطارياتها".
وعلى الرغم من أنّ هذا الإقليم يعتمد بشكل كبير على المساعدات الفرنسيّة، إلّا أن ما زاد من القلق في عاصمة القرار باريس، هو أنّ بكين تقوم بشراء المصانع والمؤسسات التي تعاني من عجز مالي وتعيد استثمارها، ما سمح لها بتعزيز حضورها في مناطق المحيط الهادئ.
الأمر لا ينتهي هنا، إنّها مجرد بداية في الصراع على جزر المحيط الهادئ، فبعد إبرام اتفاقية أمنية مع جزر سليمان في عام 2022، الأمر الذي أثار قلق واشنطن، فشلت بكين في التوصل إلى اتفاق تجاري وأمني على مستوى المحيط الهادئ. وحولت اهتمامها ودعمها المالي إلى مجموعة فرعية، هي مجموعة رأس الحربة الميلانيزية، التي تشكّلت في عام 1986 لدعم إنهاء الاستعمار في الدول الميلانيزية التي لا تزال تحت الحكم الاستعماري، وأبرزها جبهة التحرير الوطني، الكاناك، والاشتراكية في كاليدونيا الجديدة.
بالنسبة للصين، التوسع في المحيط الهندي لبناء "الحزام" لا يمكن أن يستقر من دون نفوذ في المحيط الهادئ.
وتنقل وكالة "رويترز" عن المحلل في الجامعة الوطنية الأسترالية لمنطقة المحيط الهادئ غرايم سميث، أنّ حملة القمع التي شنّتها الشرطة الفرنسية في نوميا، يُمكن أن تعزز تسليح الصين للإرث الاستعماري للدول الغربية في المحيط الهادئ، والذي يشمل التجارب النووية الفرنسية والأميركية.