بعد قرون من الاستعمار وعقود من الإهمال، بات السباق محموماً باتجاه القارة الأفريقية من باب الاستثمارات وتطوير البنى التحتية.
هذا الاهتمام ليس مفاجئاً، إذ إن الصراع بات محتدماً على أنواعه، سواء بالطرق "الخشنة" أو"الناعمة" لتغيير النظام العالمي، ما دفع بالمتصارعين للاتجاه نحو المناطق التي تختزن الموارد الأولية لمصادر الطاقة المتجددة أو الأحفورية، وهذا ما ينطبق تماماً على القارة السمراء.
ومع انحسار النفوذ الأوروبيّ مقابل تمدد نظيره الصيني والروسي، عاد الاهتمام الأميركي ليبرز باتجاه تعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الأفريقية وتقديم المغريات الاستثمارية، غير أن الخصمين اللدودين في بكين وموسكو يبدو أنهما يتقدمان في دول عدة، لا سيما على الساحل الغربي للقارة.
وعلى الرقعة الجيوسياسية الممتدة من المحيط الهندي إلى الهادئ، دخل لاعبون جدد، ما من شأنه أن يعزز مكاسب طرف دوليّ على حساب آخر. فقد استضافت كوريا الجنوبية للمرة الأولى قمة مع دول الاتحاد الأفريقي تحت شعار "المستقبل الذي نصنعه معاً"، وكان التركيز فيها على الاستثمار والتنمية الصناعية والأمن الغذائي.
وفي مؤتمر صحافي مشترك، كشف الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول والرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني الذي ترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي، عن الاتفاق في ستة مجالات للتعاون تشمل التجارة والاستثمار والمساعدات الإنمائية الرسمية والبنية التحتية والتحول الرقمي ومواجهة التحديات العالمية والسلام والأمن.
وفي كلمته الافتتاحية قال يون، إن بلاده ستعزز التعاون مع الدول الأفريقية لتأمين "إمدادات مستقرة من المعادن الحرجة" وتسريع المفاوضات لدعم الشراكات الاقتصادية والتجارة، كما وعد بزيادة مساعدات التنمية لأفريقيا إلى 10 مليارات دولار على مدى السنوات الست المقبلة، وقال إن بلاده "تمتلك تكنولوجيا متقدمة وخبرات متنوعة"، مؤكداً أن كوريا الجنوبية والدول الأفريقية سوف تتمكن من "التغلب على التحديات والأزمات الدولية من خلال إيجاد حلول مستدامة عن طريق جمع نقاط القوة لدى كل منهما".
وكوريا الجنوبية واحدة من أكبر مشتري الطاقة في العالم، وفيها كبار منتجي أشباه الموصلات. كما أنها موطن لخامس أكبر شركة لصناعة السيارات في العالم، مجموعة هيونداي موتور التي تسعى إلى التحول إلى السيارات الكهربائية.
وفي هذا الخصوص يرى نائب مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط مهند الحاج علي، أن كوريا الجنوبية "تأخرت للّحاق بركب دول شرق آسيا وروسيا للتوجه نحو أفريقيا"، ويقول لـ"النهار العربي" إن الشقّ المهم في هذه القمة هو الاقتصادي، خصوصاً أن القارة السمراء فيها من المعادن ما هو أساسي في صناعة السيارات الكهربائية. وينوه بأن الصين دخلت الأسواق العالمية مقدمة هذا النوع من الصناعات بأسعار مغرية، لافتاً إلى أنه على الرغم من الخلاف مع أوروبا في هذا الشأن، إلّا أن "المنافس الرئيسي للصين هو كوريا الجنوبية وليس الاتحاد الأوروبي".
وفي السياق نفسه، يشير إلى مسألة بالغة الأهمية على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي، إذ إن صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية أساسية بين تايوان وكوريا الجنوبية، وفي أفريقيا ما تحتاجه هذه الصناعة من مواد أوليّة، أما في الشق الجيوسياسي فيشير كبير الباحثين في كارنيغي الشرق الأوسط، إلى وجود "توجه أميركي لتنويع هذه الصناعة وتوزيعها، خوفاً من غزو الصين لجزيرة تايوان، ما قد ينعكس سلباً على هذا القطاع".
النمر الآسيوي ينافس التنين الصيني
بالنسبة للنمر الآسيوي، فإن الشراكة مع أفريقيا التي تملك 30 في المئة من احتياطيات العالم من المعادن الحرجة، بما في ذلك الكروم والكوبالت والمنغنيز، أمر بالغ الأهمية. ومن خلال تقديم عروض للمساعدة في البنية التحتية الصناعية والتحول الرقمي، تحاول كوريا الجنوبية الاستفادة من سوق واسعة وسريعة النمو تضم 1.4 مليار شخص، غالبيتهم في سن 25 عاماً أو أقل.
في هذا الإطار يقول الحاج علي "إن صناعات كوريا الجنوبية تكتسب ثقة الأسواق، والاستثمار فيها بالنسبة للحلفاء مثل الولايات المتحدة لا يحتوي على مخاطر سياسية". وإلى جانب هذا العنصر المطمئن الذي يمكن لكوريا الجنوبية أن تقدمه للأسواق العالمية، قدمت أيضاً خلال القمة الأفريقية "نموذجاً من القروض يختلف عن الصين، التي مارست ما يسمى الفخ الائتماني بحق الدائنين الأفارقة حين أخذت منهم سلعاً وقطاعات بأسعار بخسة مقابل تسديد الديون".
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى قمة ثلاثية ضمت كوريا الجنوبية واليابان والصين، عقدت نهاية الشهر الماضي، وذلك في وقت تسعى كوريا الجنوبية واليابان إلى تعميق الشراكة الأمنية الثلاثية مع الولايات المتحدة وسط تصاعد التنافس الصيني - الأميركي.
ومع هذا التنافس، لا يرى رئيس مؤسسة النيل للدراسات الدكتور محمد عز الدين أنه لدى كوريا الجنوبية ما يمكن أن يدفع أفريقيا "للاستغناء عن الصين أو حتى أن يقلل من حضورها"، ويشرح لـ"النهار العربي" أن الصين "دخلت كل قرية من قرى الدول الأفريقية ولها شراكات في كل المجالات ولها طريقتها الخاصة في الشراكة الاقتصادية مع القارة الأفريقية، عكس كوريا الجنوبية التي لا تغطي كل المجالات الاقتصادية ولا الطموحات الأفريقية اقتصادياً". ويستند بذلك إلى القمم الأفريقية مع الولايات المتحدة وألمانيا واليابان والتي لم تستطع "منع الصين من التوسع في مدّ جذور الشراكة مع القارة الأفريقية".
القمة الكوريّة الجنوبية - الأفريقية انتهت ببيان ختامي يؤكد "إطلاق الحوار الكوري بشأن المعادن المهمة الذي سيكون بمثابة أساس تنظيمي مهم لتعزيز التعاون بين كوريا وأفريقيا"، لكن لا يمكن إغفال انتقاد بكين لواشنطن وحلفائها على فرض قيود على قطاع أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، ودعوة التنين الصيني إلى الإحجام عن "المبالغة في مفهوم الأمن القومي".