من كوريا الشمالية، حيث جرى التوقيع على اتفاق دفاع مشترك، توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة إلى فيتنام، للتوقيع على ما يقارب من عشر اتفاقيات للتعاون في مجالات تتراوح بين التعليم والقضاء ومشاريع الطاقة النووية للاستخدامات المدنية.
وعلى عكس بيونغ يانغ، فإن هانوي حليفة موسكو المقرّبة منذ مرحلة الحرب الباردة، لم تعط الرئيس الروسي ما كان يرغب به عسكرياً، على الرغم من إشارة الرئيس الفيتنامي تو لام إلى رغبته في تعزيز التعاون الدفاعي. لكنه استطرد أمام الصحافيين بعد محادثاته مع بوتين بالقول إن "الجانبين يريدان دعم التعاون في الدفاع والأمن وكيفية التعامل مع التحديات الأمنية التقليدية على أساس القانون الدولي من أجل السلم والأمن في المنطقة والعالم".
أمّا بوتين فتحدث عن "هندسة أمنية مناسبة يمكن الاعتماد عليها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، استناداً إلى مبادئ عدم اللجوء إلى القوة وحلّ الخلافات سلمياً".
وانطلاقاً من "الهندسة الأمنية" لا بد من الإشارة إلى أن موسكو كانت أكبر مصدّر للأسلحة لفيتنام على مدى عقود، إذ بلغت حصتها أكثر من 80 في المئة من الواردات بين عامي 1995 و2023، لكنها تراجعت في السنوات الأخيرة مع تزايد العقوبات الدولية المفروضة على روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا.
واشنطن تعود إلى هانوي
قبل عشرة أشهر تقريباً، حطت الطائرة الرئاسية الأميركية في هانوي، ومن هناك أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن "علاقات بلاده مع فيتنام دخلت مرحلة جديدة". وعلى إثر الزيارة في 11 أيلول الماضي، اتفقت الولايات المتحدة وفيتنام على "ترقية علاقاتهما الثنائية إلى شراكة استراتيجية شاملة"، ووقعتا اتفاقية بشأن سلاسل توريد أشباه الموصلات.
وكانت الدولتان قد أعادتا العلاقات الدبلوماسية الرسمية بينهما عام 1995، بعد 20 عاماً من انتهاء حرب فيتنام. وفي تلك الحرب التي استمرت طوال ستينيات القرن الماضي، انتهت باتفاق سلام منتصف السبعينيات تقريباً، بعد خسائر فادحة تكبدها الجيش الأميركي. وعن تلك الحقبة تقول الصحف المتخصصة بالعلم العسكري إن البندقية السوفياتية AK-47 أو "الكلاشنيكوف" كان لها الدور الكبير في ذلك. وتذكر مجلة The National Interest أن الوحدات الخاصة الأميركية كانت تنفذ هجمات للاستيلاء على هذا السلاح تحديداً.
وبعد نصف قرن على انتهاء الحرب، سعت الإدارة الأميركية لعقد اتفاق مع هانوي لأضخم عملية نقل أسلحة في التاريخ بين العدوين السابقين، تشمل طائرات "أف-16"، هذا إلى جانب تطوير الأسطول الجوي المدني بطائرات من شركة "بوينغ" بصفقة تفوق 7 مليارات دولار. وكانت التقديرات أن هذه الاتفاقيات من شأنها أن تهمّش الدور الروسيّ، وتغضب الصين. وبالفعل قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة دولة بعد أقل من ثلاثة شهور على زيارة بايدن.
لكنّ لا يمكن لأي دولة في العالم أن تستبدل ترسانتها ببساطة، مثل هذا الأمر يحتاج إلى سنوات طويلة، وكانت دبابات "ت-90" الروسية من آخر الصفقات التي وقعت بين فيتنام وروسيا عام 2016، كما أن البحرية الفيتنامية كلها روسيّة الصنع. وبعد العقوبات الغربية حاولت هانوي الالتفاف على العقوبات حفاظاً على قدراتها العسكرية، وعملت في الوقت نفسه على تعزيز واردتها العسكرية من دول أخرى مثل كوريا الجنوبية والهند وتشيكيا، خصوصاً أنها تدرك أن الأسلحة الأميركية تحتاج إلى وقت طويل وأن أي صفقة لا بد أن تمرّ بالكونغرس مسبقاً لإعطاء الموافقة.
إلى جانب السلاح، لدى روسيا حصة كبيرة في قطاع النفط والغاز في فيتنام، ومشروع Vietsovpetro الذي يدير أكبر حقل نفط في فيتنام "باخ هو" تديره شركات روسية بالاشتراك مع "بتروفيتنام" المملوكة للدولة في فيتنام.
بوتين والبحث عن الأمن
انطلاقاً ممّا تمتلك موسكو من أوراق قوة في فيتنام، جاءت جولة بوتين الآسيوية بمثابة تحدٍ للغرب في وقت كثّفت القوى الغربية من العقوبات. وكانت فيتنام قد امتنعت عن التصويت في جلسات الأمم المتحدة المخصصة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وعملت على إقامة علاقات وديّة مع جميع الأطراف من دون أن تضطر لموالاة أي جهة، خصوصاً في ظلّ المنافسة المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، وسعي القوتين العالميتين لتعزيز نفوذهما في جنوب شرق آسيا.
ومع تفاقم حدّة الصراع العالمي، يسعى بوتين من خلال زيارته فيتنام إلى إقامة "بنية أمنية يمكن الاعتماد عليها" في منطقة آسيا والمحيط الهادي، على حدّ تعبيره. كما نقلت وسائل إعلام روسية عن بوتين قوله "نحن ملتزمون بشدة بتعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع فيتنام، والتي تظل من بين أولويات السياسة الخارجية الروسية".
لكنّ مشكلة بوتين "بالشراكة الاستراتيجية الشاملة" هي أن الشراكة نفسها تربط فيتنام مع كل من الولايات المتحدة والصين، مع العلم أن العلاقة مع بكين غير مبنية على ثقة كاملة نظراً للخلاف الحدودي بينهما في بحر الصين الجنوبي. وتدرك هانوي كذلك أن توطيد العلاقات الروسية الصينية لن تساعدها على حلّ هذا النزاع.
وبوتين يدرك من جهته أن المتغييرات الجيوسياسية في جنوب شرق آسيا لن تعيد العلاقات كما كانت عليه في عهد الاتحاد السوفياتي، مع دخول واشنطن لاعباً رئيسياً على دول المنطقة في إطار احتواء النفوذ الصيني المتعاظم.
وفي هذا السياق جاء الردّ الأميركي سريعاً مع زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ دانيال كريتنبرينك لهانوي، "لتأكيد الالتزام الأميركي القوي بتنفيذ الشراكة الأميركية الفيتنامية الاستراتيجية الشاملة"، وفق بيان وزارة الخارجية، ولتجديد دعم الولايات المتحدة "لفيتنام قويّة ومستقلة ومقاومة ومزدهرة".
ومن هنا، لم يكن مستغرباً إعلان زعيم الكرملين في ختام زيارته الآسيوية، أن روسيا تدرس إدخال تعديلات محتملة في عقيدتها بخصوص استخدام الأسلحة النووية، بعدما كال الاتهامات تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأنه يخلق تهديداً أمنياً لموسكو في آسيا. وتنص العقيدة الحالية على أن روسيا ربما تستخدم مثل هذه الأسلحة رداً على هجوم نووي، أو في حالة التعرض لهجوم تقليدي يشكل تهديداً وجودياً للدولة.