في تعريف السياسة، أن لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، إنما هناك مصلحة دائمة. هذا التعريف يختصر العلاقة بين روسيا والصين التي شهدت طوال العقود الماضية حالة من المدّ والجزر.
وهذا ما أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه نظيره الصيني شي جينبينغ على هامش قمة شنغهاي التي انعقدت في كازاخستان، الدولة التي تتوسط القوتين العظميين، بقوله: "لقد ذكرنا أكثر من مرة، ولسبب وجيه، أن العلاقات الروسية - الصينية القائمة على الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجي تشهد أفضل فترة في تاريخها، وهي مبنية على مبادئ المساواة والمنفعة المتبادلة واحترام سيادة الطرف الآخر".
وفي الأساس، أسست بكين وموسكو "منظمة شنغهاي" عام 2001 بالتعاون مع ست دول في آسيا الوسطى بهدف تعزيز الثقة المتبادلة وحسن الجوار ومحاربة الإرهاب وتدعيم الأمن ومواجهة حركات الانفصال والتطرف الديني أو العرقي. وهذا يعني عملياً تعزيز التعاون السياسي والتجاري والاقتصادي، لتكون مركز ثقل وقوة موازياً ومنافساً للقوى الغربية. مع الإشارة إلى أنها توسعت في ما بعد وباتت تضم الهند وباكستان وإيران، إضافة إلى "شراكة" مع كل من مصر والسعودية وقطر.
في قمة آستانا قبل يومين، أشاد بوتين وشي بعمل المنظمة باعتبارها "قوة لتحقيق الاستقرار في العالم". وفي اللقاء نفسه، وصف شي بوتين بأنه "صديق قديم"، و"في مواجهة الوضع الدولي المضطرب والبيئة الخارجية، يتعين على الجانبين مواصلة التمسك بتطلعهما الراسخ لصداقة تدوم لأجيال مقبلة".
وقبيل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، زار بوتين بكين وأعلن الطرفان عن شراكة "بلا حدود". غير أن هذه الشراكة لم تُترجم بدعم صيني للحرب، إلّا أن الرجلين يعتقدان أن حقبة ما بعد الحرب الباردة التي هيمنت عليها الولايات المتحدة تتداعى.
وتؤكد "منظمة شنغهاي" للتعاون أنها تضم 40 في المئة من سكان الكوكب ونحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، هذا في الاقتصاد. وفي السياسة تريد موسكو وبكين تشكيل جبهة موحدة ضد الغرب، لكن ذلك لم يحل دون تفاقم الخلاف الحدودي بين الهند والصين، أو إلى ربط النزاع الاقتصادي بين الدولتين المؤسستين من خلال تنافسهما على آسيا الوسطى، وهي منطقة غنية بالنفط وممر حيوي لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا.
صداقة وعداء في آن
"تضارب المصالح" على هذه البقعة الجغرافيّة أمر لا مفر منه، إذ تشكل ممراً أساسياً لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية. وأشاد شي بـ"الشراكة الاستراتيجية" بين بكين وأستانا، بينما تسعى موسكو إلى الحفاظ على نفوذها في هذه الجمهوريات السوفياتية السابقة وترسيخ علاقاتها معها ولاسيما عبر استثمارات اقتصادية واسعة النطاق. وإنّ كانت اللقاءات والتصريحات تقوم بـ"عملية تجميل" للعلاقات الروسية - الصينية، لكنها لا تخفي هذا النزاع على النفوذ. وفي هذا السياق عنونت صحيفة "وول ستريت جورنال" أحد مقالاتها خلال تغطيتها قمة آستانا: "بكين وموسكو تنتقلان من الصداقة ‘بلا حدود’ إلى ‘أعدقاء’ في الفناء الخلفي لروسيا". ولعلّ هذا ما يمكن أن يوصف حالة الصداقة والعداء التي ميّزت تاريخ الدولتين.
وتصف مراسلة الصحيفة الأميركية، من طشقند، أنه عندما زار بوتين العاصمة الأوزبكية، كانت صوره تزين الشوارع، لكن تحتها كان تمرّ سيارات تحمل علامات تجارية صينية مثل BYD وجيلي تجوب شوارع أوزبكستان مع تضاؤل عدد سيارات لادا الروسية. وهذا توصيف آخر لواقع الحال في هذه الدول.
بحكم أن هذه الدول كانت من الجمهوريات السوفياتية السابقة، فإن علاقتها مع موسكو ترتبط بمسائل الأمن، وهذا أحد أهداف تأسيس "منظمة شنغهاي"، لكن مما لا شك فيه أن الحرب في أوكرانيا استنزفت المقدرات الاقتصادية الروسية، مما انعكس سلباً على الاستثمارت، وهذه الدول شأنها شأن باقي دول العالم التي لايزال اقتصادها يعاني تداعيات جائحة "كوفيد-19".
هذه الثغرة لا بد من أن تملأها قوى أخرى قادرة، فكانت الصين هذا البديل، بحكم القرب الجغرافي والمصلحة القومية في إتمام مبادرة الزعيم الصيني شي جينبينغ "الحزام والطريق" أو كما يُسميها هو "طريق واحد حزام واحد".
هذا المشروع العملاق، الذي يحيي "الحلم الصيني" بإعادة "طريق الحرير" التاريخية إلى سابق عهدها، يستدعي استثمارات ضخمة في الدول المعنية بهذه المبادرة، وتطوير بناها التحتية ما يخلق الكثير من فرص العمل في مجالات مختلفة، لاسيما عند الفئة الشابة.
أكثر من ذلك، بمجرد النظر إلى خريطة "المبادرة الصينية" نرى أن "طريق الحرير" التقليدية لا تمر في روسيا في الأساس، إنما من دول آسيا الوسطى مروراً بإيران وتركيا ومنها نحو أوروبا. لكن هذه "المبادرة" تحتاج في القرن الحالي إلى طرق دعم تعززها مثل شبكة سكك الحديد، وبحسب الخريطة التي نشرها موقع MERICS المتخصص في دراسة الشؤون الصينية، نجد أن خطاً واحداً يمر عبر الأراضي الروسية والبقية في آسيا الوسطى، الأمر عينه ينطبق على شبكة الطرقات البرية السريعة. وهنا لا بد من الإشارة أيضاً إلى الخلاف الروسي - الصيني حول خط الغاز الثاني "باور أوف سيبيريا 2".
الحزام وعقد اللؤلؤ
أما في ما يتعلق بـ"الحزام" أي الموانئ البحرية، فإن روسيا لا مكان لها فيه كونه يعتمد على مرافئ الدول المطلة على المحيط الهندي. أبعد من ذلك يترافق "الحزام والطريق" مع استراتيجية صينية أخرى تعرف باسم "عقد اللؤلؤ" من خلال الانتقال من الدفاع الساحلي إلى أعالي البحار والانتشار العسكري البحري البعيد المدى، والتي تمتد من البر الرئيسي الصيني إلى القرن الأفريقي. ومن أبرز أهدافها الجيواستراتيجية تطويق الهند، العضو البارز في منظمتي "شنغهاي" و"البريكس"، والتي باتت تنافس الصين في مجالات عدة. والرؤية الاستراتيجية الصينية شملت كذلك المحيط المتجمد الشمالي في منافسة مباشرة مع روسيا.
إنما في إطار سعي بكين وموسكو لتقويض نفوذ واشنطن في العالم، تبقى هذه الخلافات تحت سقف "ربط النزاع"، كما أن موسكو تحتاج إلى تعزيز موقعها الدولي من خلال تحالفات كبيرة لمواجهة العقوبات الغربية وإنهاء الحرب في أوكرانيا بانتصار قادرة على تسييله في مواجهة الغرب. وإلى ذلك الحين علاقة "الصداقة" مع بكين باقية، من دون أن تلغي حالة "العداء" التاريخية.