قبل قيام الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي، كانت مجموعة دول في غرب أفريقيا تسعى لإنشاء اتحاد يحقق التكامل الاقتصادي من خلال تعزيز التبادل التجاري والاندماج في قطاعات الصناعة والنقل والاتصالات والطاقة والزراعة والاستفادة من المصادر الطبيعية التي تزخر بها هذه الدول، بعد إزالة الحواجز الاقتصادية والسياسية وحتى اللغوية.
في عام 1975 تحقق ذلك بين 15 دولة، وجرى تأسيس المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تعرف اختصاراً باسم "إيكواس"، وأنشئت مؤسسات تجعل من هذا الاتحاد أكثر قدرة على الاستمرار والتطور، كما وضعت الدول الأعضاء خططاً لإصدار عملة موحدة في 2027.
في عام 1993، وبعد أن تبنت "إيكواس" قانوناً يمنحها صلاحية منع النزاعات الإقليمية وتسويتها، تدخلت بالفعل في عدد كبير من الدول الأفريقية لوقف الاقتتال أو الحدّ منه، وعملت على تشكيل قوة تدخل سريع عسكرية في حالة نشوب أي صراع.
وعلى رغم تحقيق حلم الوحدة تحت مظلة "إيكواس" إلّا أن حجم الصراعات والنزاعات في أفريقيا كان دائماً يشكل العقبة الأساسية أمام تطوير هذا النموذج وتحقيق الأهداف المرسومة له، لاسيما لناحية التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي لأبنائه. وبعد نحو خمسين عاماً على التأسيس، تواجه المجموعة "تحدي البقاء" وهذه المرّة من ثلاث دول مؤسسة هي النيجر وبوركينا فاسو ومالي.
فقد عبّرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا عن خيبة أملها من عدم إحراز تقدم مع المجالس العسكرية التي تقود هذه الدول الثلاث، بعد سلسلة الانقلابات التي نفذتها في السنتين الماضيتين، إذ أن القادة العسكريين أعلنوا خلال قمة جمعتهم في عاصمة النيجر نيامي، عن توحد دولهم الثلاث ضمن كونفدرالية، مؤكدين في الوقت عينه انسحابهم من "إيكواس".
ودعا رئيس المجلس العسكري الحاكم في النيجر عبد الرحمن تياني، إلى جعل هذا التحالف المستجد "بديلا من أي تجمع إقليمي مصطنع عبر بناء مجتمع سيادي للشعوب، مجتمع بعيد من هيمنة القوى الأجنبية".
مقاربة المجالس العسكرية لواقع غرب أفريقيا، واعتبار أنها لا تزال "تعاني من تبعات الإمبرياليين" على حدّ قول رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو الكابتن إبراهيم تراوري، جعلها تبتعد عن فرنسا وتطلب منها سحب قواتها من بلدانها، ثم حصل الأمر نفسه مع القوات الأميركية في النيجر، التي بدأت تفكيك قاعدتيها قرب مطار نيامي وتلك المخصصة للمسيّرات في أغاديز في وسط النيجر. كذلك بالنسبة الى قاعدة النقل الجوي التابعة للجيش الألماني في النيجر، إذ أعلنت وزارة الدفاع الألمانية أنها ستنهي استخدام القاعدة في آب (أغسطس) المقبل، بعدما وصلت المفاوضات مع النظام العسكري في هذا البلد إلى طريق مسدود. كما طلبت مالي من "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعدّدة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" (مينوسما) مغادرة البلاد.
"الشراكة الصادقة" تُرجمت بشكل أولي عندما هددت "إيكواس" بالتدخل عسكرياً في النيجر بعد الإنقلاب، عندها أعلنت الخارجية الروسية في آب (أغسطس) 2023 أن "التدخل العسكري في النيجر قد يؤدي إلى مواجهة طويلة الأمد" وزعزعة منطقة الساحل بأكملها. لكن بقية الترجمة للموقف الروسي جاءت مطلع العام الجاري، مع الإعلان عن تشكيل قوة عسكرية باسم "الفيلق الأفريقي"، يتراوح عددها بين 40 و50 ألف جندي، وتتمثل مهمتها في دعم الوجود الروسي ومناصرة الحكومات الأفريقية نحو الاستقلال، وذلك استكمالاً لدور مجموعة "فاغنر" قبل مقتل قائدها يفغيني بريغوجين.
تزامن كل هذه الأحداث، رفع من نسبة المخاوف عند دول الغرب، لاسيما الولايات المتحدة، كون النيجر وحدها تملك ما يقارب من 5 في المئة من الاحتياطي العالمي لليورانيوم، بحسب المنظمة العالمية للطاقة النووية، وهذا ما جعل الصحف الغربية تثير مسألة الاندفاعة الإيرانية تجاه أفريقيا، إلى جانب العامل الديني والدخول من باب الاستثمار في البنى التحتية وتأسيس جامعات أكاديمية، واستئناف علاقاتها مع دول شرق أفريقيا التي لها موقع استراتيجي على البحر الأحمر وباب المندب، الذي يعدّ بوابة دخول السلاح إلى الحوثيين.
هذه التحولات تصب في مصلحة الصين التي دخلت أسواق القارة السمراء، في منافسة مباشرة مع كل دول العالم بما فيها الصديقة والحليفة، خدمة لتحقيق مطامحها في مبادرة "الحزام والطريق"، والاستفادة من 65 في المئة من الموارد العالمية التي لم يتم العمل على استغلالها، بحسب تقديرات اقتصادية دولية.
أما تركيا فهي مستفيدة أيضاً مع ابتعاد دول منافسة عن الساحة، إذ أنها بدأت بتوجيه استثماراتها نحو أفريقيا منذ مطلع الألفية، وزادت من تمثيلها الدبلوماسي، ونفوذها العسكري من خلال تدريبات مشتركة وفتح أسواق جديدة أمام صناعاتها العسكرية.
إن كانت مجمل الأحداث تساعد بعض الدول على السير بين التناقضات لتحسين موقعها الجيواستراتيجي، والحصول على قطعة أكبر من "الجبنة الأفريقية"، غير أن الاتحاد الكونفدرالي بين "تحالف دول الساحل" لا يعطي طابع الاستقرار والديمومة لجهة النظام نفسه كون هذه الأنظمة كانت تعود وتتجه نحو الفدرالية، ومن غير الواضح مدى استعداد شعوب هذه الدول أو مجالسها العسكرية لمثل هذه الخطوة.
من ناحية أخرى، إن لم تكن "إيكواس" قادرة على حلّ النزاعات وتأمين الرفاه لشعوبها على مدى خمسين عاماً نتيجة عدم الاستقرار السياسي المدفوع بعوامل خارجية، فإن كونفيدرالية تحالف الساحل أمامها تحديات أشدّ وطأة في ظل الصراع الدولي على تغيير النظام العالمي.