نهاية آذار (مارس) الماضي، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعليماته إلى طياري القوات الجوية الروسية، قائلاً إن بلاده لا تخطط لمهاجمة أي من دول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لكن إذا ما زود الغرب أوكرانيا بمقاتلات أف-16 فإن القوات الروسية ستسقطها.
وفي تلك الليلة، وبينما كان التوتر السياسي بين موسكو والغرب يتصاعد، تماماً كما كانت الجبهات الميدانية تشهد تطورات لصالح الجيش الروسي، أشار بوتين إلى أن مقاتلات أف-16 يمكنها حمل أسلحة نووية، محذّراً من أنه في حال "انطلقت هذه الطائرات من مطارات دولة ثالثة، فستصبح أهدافا مشروعة لنا أينما كانت".
على هامش قمة "الناتو" التي عقدت في واشنطن بمناسبة مرور 75 عاماً على تأسيس الحلف، قال وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن إن هذه المقاتلات في طريقها إلى أوكرانيا من الدنمارك وهولندا، مؤكداً أنها ستحلق في سماء أوكرانيا هذا الصيف.
وفي القمة نفسها كان الوعود تنهال على أوكرانيا لدعمها عسكرياً بما يفوق 40 مليار دولار، منها منظومة صاروخية للدفاع الجوي من طراز باتريوت، والأهم "بناء جسر واضح وقوي"، لانضمام أوكرانيا إلى الحلف، بحسب بلينكن، ومسألة توسيع الحلف الأطلسي ليشمل كييف، هي التي أثارت مخاوف الكرملين وسرعّت في اتخاذ قرار الحرب.
وبشأن هذا التفصيل تحديداً، يبدو أن الوعود الأطلسية غير قابلة للاستهلاك السريع، كون أوكرانيا في حالة حرب مع إحدى القوى العظمى. والدول الأعضاء تتمتع بحماية المادة الخامسة من الحلف، التي تنص على أن الهجوم على دولة ما هو هجوم على الجميع. وهذا يشمل بطبيعة الحال قائدة الحلف الولايات المتحدة. وبناء عليه كانت التصريحات المرافقة لهذا "الجسر" تؤكد أن الناتو ليس طرفاً بالصراع، وربما جاء التفسير الأوضح من الأمين العام للأطلسي ينس ستولتنبرغ، بأن روسيا تركز بشكل كامل على أوكرانيا وأنه لا يرى "تهديداً روسياً مباشراً على أي حليف"، ما يعني عملياً أن عملية انضمام أوكرانيا في غرفة الانتظار الطويل، إلى حين انتهاء الحرب.
تبقى مسألة المقاتلات الحربية، وإن كان فعلاً سلاح الجو الروسي ودفاعاته الأرضية، قادراً على مواجهتها وتدميرها كما وعد بوتين، من جهة. ومن جهة ثانية هل ستكون لأوكرانيا الأعداد الكافية من هذه الطائرات لقلب مسار الحرب؟ وهل خضع الطيارون الأوكران إلى التدريبات الكافية على هذه الطائرات الحديثة والتي تختلف كلياً عن تلك التي اعتادوا عليها من صناعة روسية؟ على الرغم من كلّ الخطابات الداعمة، إلّا أن الأجوبة عن هذه التساؤلات لا تزال غير واضحة.
على خط مواز برزت خطوة أطلسية من شأنها أن تزيد المشهد تعقيداً، فقد أُعلن عن قاعدة أميركية جديدة للدفاع الجوي في شمال بولندا، وأنها أصبحت جاهزة لمهمتها التي تركز على رصد واعتراض الهجمات الصاروخية الباليستية، وذلك في إطار درع صاروخي أوسع للحلف.
الأمر ذهب حدّ إعادة سيناريوهات الحرب الباردة، إذ أعلنت كل من الولايات المتحدة وألمانيا في بيان مشترك، أنهما ستبدآن في "نشر أسلحة بعيدة المدى في ألمانيا في 2026 لإظهار التزامهما تجاه الدفاع مع حلف شمال الأطلسي وأوروبا".
شبح الحرب الباردة، دفع نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف إلى القول "إن روسيا ستعمل على الخروج برد عسكري على خطط الولايات المتحدة لنشر صواريخ طويلة المدى في ألمانيا"، مؤكداً أن قرار نشر الصواريخ في ألمانيا يهدف إلى "الإضرار بأمن روسيا".
كما أعلن الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، أن البنية التحتية العسكرية لحلف شمال الأطلسي تقترب من حدود روسيا، و"أن موسكو ستضطر للتدخل لكبح التحالف العسكري الغربي"، وأن هدف الحلف هو إخضاع روسيا، وتمثل "تهديداً خطيراً" للأمن القومي الروسي.
المواقف الروسية شملت أيضاً اعتراضها الصريح على مشاركة أرمينيا في قمة واشنطن، وأعربت الخارجية الروسية عن استيائها من هذه الخطوة، ولم تتردد بالقول إن "تعاون أرمينيا مع حلف الأطلسي يخاطر بتقويض أمنها وبزعزعة استقرار جنوب القوقاز".
الصين تحت منظار الأطلسي
من كل ما سبق تُظهر خريطة الصراع وكأن المواجهة بين الناتو وموسكو على الأبواب. لكن يبدو في حقيقة الأمر أن التركيز الغربي منصب بشكل رئيسي باتجاه الصين. وروسيا هي المدخل للتعبير عن المحاذير والمخاوف من العملاق الآسيوي. وما يعزز فرضية أن الهواجس الأطلسية منكبة تجاه شرق آسيا، ما جاء في البيان الختامي أن أعضاء الحلف مستعدون للحفاظ على تواصلهم مع موسكو في مسعى للحد من المخاطر والتصعيد.
على المقلب الآخر اعتبر بيان قمة الناتو، أن الصين باتت من أهم داعمي روسيا في حربها على أوكرانيا فضلا عن أنها لا تزال تشكل تحدياً لأوروبا. وشدّد البيان على أهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ نظراً إلى أهمية التطورات في تلك البقعة وتأثيرها المباشر على الأمن في أوروبا ودول الحلف. كما عبّر الحلف عن ترحيبه بتعزيز التعاون مع الشركاء في منطقة آسيا والمحيط الهادي لدعم أوكرانيا، معرباً في الوقت نفسه عن القلق الذي يساوره إزاء التطورات في القدرات والأنشطة الفضائية للصين.
وأكد القادة المجتمعون أنهم يعملون على تعزيز قدرتهم على الصمود "والحماية من التكتيكات القسرية التي تتبعها الصين وجهودها الرامية إلى تقسيم التحالف". وهنا لا بد من الإشارة إلى أن قمة قادة الناتو شهدت للعام الثالث على التوالي حضور زعماء نيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، في دلالة واضحة على عمق التعاون بين الناتو وهذه الدول.
بكين وصفت بيان الحلف الأطلسي بأنه يستخدم "لغة عدائية وإن المحتوى المتعلق بالصين يتضمن استفزازات وأكاذيب"، بحسب متحدث باسم بعثة الصين لدى الاتحاد الأوروبي، الذي أضاف أن "بيان قمة الحلف في واشنطن تسيطر عليه عقلية الحرب الباردة ويستخدم لغة عدائية، والمحتوى المتعلق بالصين مليء بالاستفزازات والأكاذيب والتحريض والتشهير"، بينما موقف بلاده الأساسي بشأن القضية الأوكرانية هو تعزيز محادثات السلام والتسوية السياسية.
وهنا أيضاً لا يمكن أن نغفل أن قمة الناتو تزامنت مع زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى روسيا، في إطار تعزيز العلاقات والبحث عن حلّ سلميّ يضع نهاية للحرب في أوكرانيا. وقبلها كانت محاولة من رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي التقى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في فلوريدا بعد قمة حلف الأطلسي ورحلته إلى كييف وموسكو ثمّ بكين حيث سعى للبحث عن سبل لحلّ النزاع في أوكرانيا. وقال أوربان في منشور على منصة "اكس" مرفق بصورة من اللقاء مع ترامب في مقرّ الأخير في مارالاغو "ناقشنا سبل صنع السلام".
مساعي السلام التي باءت بالفشل حتى اليوم، ومساعي التعزيزات العسكرية في الميدان الأوكراني والتي لم تتمكن من صدّ التقدم الروسي، معادلات ستبقي هذا الستاتيكو قائماً إلى تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل موعد الانتخابات الأميركية التي تشهد تقدم المرشح دونالد ترامب، ويبدو أن قادة "الناتو" يخشون هذه اللحظة "الخريفية" وهو ما جعلهم يتجهون نحو مواقف سياسية تصعيدية، تحضيراً لأي تغييرات في السياسات الخارجية لدول الحلف، كون توسيع الحرب في أوروبا أو في الشرق الأوسط أكبر من أن يتحملها الاقتصاد العالمي.