إذا نظرنا إلى خريطة العالم، وأردنا أن نضع إشارة على أماكن الصراعات والحروب، ربما الاستثناء لن يكون سوى دول قليلة.
وفي ظل هذا العالم الملتهب، وجد الغرب نفسه أمام أزمتين تداعيتهما عالمية، على الرغم من انحسار جغرافيتها في إقليم محدّد. وهنا نتحدث عن الحرب الروسيّة الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، وأقرب ما يكون إلى التداعيات الجيوسياسية للحدثين هي أوروبا.
في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2023، كتب الصحافي الألماني كريستوف هاسلباخ في موقع "دويتشه فيليه" مقالة عرض فيها تحديات السياسة الخارجية الألمانية، رأى فيها أن "أيام الأوقات الهادئة للسياسة الخارجية الألمانية قد ولّت، إذ يجب على برلين الآن إيجاد إجابات لحربين في أوكرانيا وإسرائيل، كما أن سياسة الصين باتت عدائية بشكل متزايد والنظام العالمي يبدو في حالة اضطراب".
وفي ختام المقالة المطولة، أشار إلى أن الحكومة الألمانية تبحث عن إجابات للأحداث السياسية العالمية مثل الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط أو الصراع مع الصين، و"سواء أحبت ألمانيا ذلك أم لا، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتوقعان أن تلعب القوة الاقتصادية الأوروبية الأقوى ورابع أكبر قوة اقتصادية على مستوى العالم، دوراً أكثر نشاطاً". لكنه أعطى إجابة من خلال إحصاء جرى في ذات الفترة الزمنية للمقال، وفيها أن "38 في المئة فقط مع رؤية مشاركة سياسة أكبر"، بينما تعارض أغلبية 71 في المئة "دور للقيادة العسكرية الألمانية في أوروبا". وتابع، أنه من خلال هذه الأرقام كما لو أن الألمان يريدون شيئاً واحداً قبل كل شيء: "السلام من عواصف السياسة العالمية. بيد أنها أمنية بات تحقيقها مشكوك فيه للغاية".
وفي أيلول (سبتمبر) الجاري، أي بعد عشرة أشهر على ما كتبه هاسلباخ، كتبت مجلة Internationale Politik تحقيق خلاصته "إذا كانت ألمانيا تريد أن تؤكد نفسها في وسط الغرب الهش، فإنها تحتاج إلى المزيد من الشجاعة والتصميم في كافة مجالات سياستها الخارجية". وشبّه الكاتب يورغ لاو الحال اليوم بما كانت عليه إبان الحرب الباردة من خلال استخدام مفاهيم مثل الردع والاحتواء والدفاع.
ويوم الجمعة الماضي، نشر مركز أبحاث "المؤسسة الألمانية للسياسة الخارجية" تحقيقاً من المجلة نفسها Internationale Politik بعنوان "إنهاء الغطرسة" في سلوك ألمانيا وأوروبا تجاه بلدان الجنوب العالمي. وفيه ترى المجلة الرائدة في تحليل السياسات الخارجية أنّ "لحظة الأحادية التي كانت سائدة في العقود الماضية قد انتهت"، وأن "حالة جديدة من عدم الوضوح قد حلّت محل الهيمنة العالمية القديمة للقوى عبر الأطلسية"، وأن هذا يوفّر "قدراً كبيراً من المجال لتحالفات جديدة" وتحديداً مع الجنوب العالمي أو على الأقل مع "الدول الفردية خارج العالم الغربي".
وفي هذا الإطار يقول سي راجا موهان، الأستاذ الزائر في معهد دراسات جنوب آسيا في الجامعة الوطنية في سنغافورة، إنّ "بلدان الجنوب العالمي لا تتحد بالضرورة بسبب التعاطف مع سياسات الصين أو روسيا، ولكن قبل كل شيء بسبب الاستياء العميق من أبوية الغرب في حقبة ما بعد الحرب الباردة".
إعادة النظر بالسياسات الخارجية، أو تغيير المقاربة تجاه القضايا العالمية، تأتي متزامنة مع صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا. وبدت طلائع هذا التقدم في انتخابات الاتحاد الأوروبي بشكل عام وفي انتخابات ألمانيا وفرنسا، وهنا تحديداً نتحدث عن دولتين الأولى هي أكبر اقتصاد أوروبي والثانية هي الواجهة السياسية للقارة العجوز.
هذا الصعود المؤرق لمراكز القرار الأوروبية، مرتبط بشكل رئيسي بمسألة الهجرة، وهي المرتبطة بدورها بالصراعات والنزاعات في الشرق الأوسط وأفريقيا بشكل خاص.
ومن جهة ثانية، الحرب في أوكرانيا أثرت بشكل مباشر على إمدادات الطاقة، وتحديداً الغاز، وهي المادة الرئيسية التي تعتمد عليها أوروبا للصناعات والتدفئة. وكل البدائل المطروحة تشير إلى أنه حتى اليوم لا استغناء عن الغاز الروسي.
أما الخط الثالث للأزمة الأوروبية فهي الصين وبروزها كثاني أقوى اقتصاد عالمي، وغزو صناعاتها الأسواق العالمية على حساب نظيرتها الأوروبية، بما فيها الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية التي كانت تتميز بها دول الاتحاد الأوروبي لا سيّما ألمانيا.
من كل ما سبق، ومع متابعة للأحداث، فإن السياسات الأوروبية سواء الداخلية أو الخارجية متداخلة وتصطدم بآليات التنفيذ، وهذه مسألة مرتبطة بشكل أو بآخر بطبيعة النظام السياسي الفريد الذي خلقه الاتحاد الأوروبي لإدارة شؤونه، والتي يبدو أن التعقيدات التي خلقها هذا النظام جعلت من أوروبا غير قادرة على الحفاظ على نفوذها العالمي في ظل الصراعات الجيوسياسية والمتغيرات الناتجة عنها لإقامة نظام عالمي جديد.