النهار

100 عام على ثورة هابل في علم الكون
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
ثورة أولى أشعلت أخرى بعد سنوات قليلة.
100 عام على ثورة هابل في علم الكون
عالم الفلك الأميركيّ إدوين هابل أطلق ثورتين قبل نحو 100 عام (إيسا)
A+   A-

بصرف النظر عن مدى متابعتهم للعلوم والأنباء الفلكيّة، يدرك الناس بشكل عامّ أنّهم يعيشون في كون مترامي الأطراف يضمّ الملايين أو المليارات من المجرّات التي تضمّ بدورها الملايين أو المليارات من النجوم. بعبارة أخرى أكثر تبسيطاً، يعرف الإنسان العاديّ أنّه يعيش في مجرّة درب التبّانة، وأنّ هذه المجرّة ليست سوى جزء بسيط من الأعداد الكبيرة للمجرّات التي تسبح في الفضاء الخارجيّ. تمثّل هذه المعرفة الفضفاضة أساس فهمنا لحجم الكون الذي نعيش فيه.

 

هذه المعرفة العامّة بالكون لدى الإنسان العاديّ اليوم تمثّل قفزة نوعيّة عمّا كان يعرفه لا أسلافه فقط، بل علماء الفلك أنفسهم قبل نحو قرن من الزمن. فحتى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كان علماء الفلك يظنّون أنّ الكون عبارة فقط عن مجرّة درب التبّانة وقد مثّلت الشمس مركزها. في ذلك الوقت، كانت حسابات قُطر مجرّتنا، وبالتالي قُطر الكون، تشير إلى 6 آلاف سنة ضوئيّة وحسب.

 

الثّورة الأولى... على يد ملاكم

كان على العالَم أن ينتظر مجيء شخصيّة مميّزة في مسيرتها المهنيّة لتؤكّد وجود أكثر من مجرّة في هذا الكون: إدوين هابل. درس هابل الرياضيّات وعلم الفلك في جامعة شيكاغو سنة 1910 كما درس القانون في جامعة أكسفورد (بموجب "منحة رودس" العريقة). بعد خدمته في الحرب العالميّة الأولى، عاد هابل إلى شيكاغو ليحصل على الدكتوراه في علم الفلك سنة 1917. كان هابل بارعاً في رياضات عدّة وخصوصاً في الملاكمة، إذ أطاح ببطل ألمانيّ في الوزن الثقيل. بسبب براعته، أيّد مناصروه أن يجري تدريبات للقتال في بطولة العالم للوزن الثقيل. في ذلك الوقت، كان أميركيّون مستائين من كون بطل بلادهم في الملاكمة أسود البشرة فبدأ بعضهم بالترويج لهابل كي يكون البطل الأبيض الجديد. درّب هابل فرقاً مدرسيّة في كرة السلّة وحطّم رقماً قياسيّاً في القفز العالي.

 

بنى هابل دراسته على أكبر تلسكوب حينها، مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا، وراح يراقب "سديماً" مشعّاً وبالتحديد نجوماً "قيفاويّة" يتغيّر سطوعها بمرور الوقت. أدرك بحساباته أنّ تلك النجوم أبعد من أن تكون تابعة لمجرّتنا. في الواقع، اكتشف هابل أنّ "سديم" أندروميدا الذي ضمّ تلك النجوم هو في الواقع مجرّة أخرى.

 

حدث الاكتشاف سنة 1924. مثّل ذلك ثورة في فهم الإنسان للكون، حتى أنّ هابل أصبح أشهر عالم فلك بين ليلة وضحاها بينما بات الناس على بيّنة من أنّ الكون كان أوسع ممّا تخيّله أيّ أحد. لكنّ شهرة هابل ستتغذّى أكثر بعد سنوات قليلة. فهو كان يعدّ لاكتشاف أعظم بكثير.

 

الثورة الثانية

إنّ "القنبلة" الفعليّة التي فجّرها هابل بحسب توصيف البعض أتت بعد خمسة أعوام. لم يدرك العالم فجأة أنّ الكون يشمل عدداً هائلاً من المجرّات وحسب بل أنّه كون آخذ في التوسّع أيضاً. صدم ذلك كثراً، بمن فيهم أينشتاين الذي أسند معادلاته إلى نموذج لكون ساكن. وسنة 1931، زار أينشتاين هابل في مرصده ليشكره على إنجازه.

 
 
 

فقد اكتشف هابل بفعل دراسته للضوء الصادر عن عددٍ من المجرّات أنّ الأخيرة كانت تبتعد عن مجرّتنا بما أنّ الضوء كان يتحوّل إلى الأحمر (ظاهرة الانزياح نحو الأحمر). في الوقت نفسه، لاحظ أنّه كلّما بَعُدت المجرّات تسارعت أكثر في ابتعادها عنّا بالمقارنة مع تسارع المجرّات الأقرب. كانت هذه الفكرة أساسيّة لتطوير نظريّة الانفجار العظيم في وقت لاحق.

 

بهذا المعنى، مثّلت عشرينات القرن الماضي بداية التسارع الكبير في علم الكون، كي لا يقال بداية فصل جديد تماماً. فقبل ذلك المنعطف، ظنّ العلماء أنّه لم يعد هناك الشيء الكثير لاكتشافه، بعدما فكّوا ألغاز الجاذبيّة مع إسحق نيوتن (1642-1727) والفيزياء الكهرومغناطيسيّة مع مايكل فاراداي (1791-1867) إضافة إلى اكتشاف الذرّات وغيرها. لكنّ الطريق كان لا يزال في بداياته.

 

عودة إلى المليارات... والتريليونات

بعد مئة عام، بتنا نعلم أنّ قُطر مجرّتنا يمتدّ على أكثر من 100 ألف سنة ضوئيّة بعدما كان التقدير أقلّ من ذلك بنحو 18 مرّة. ويقع نظامنا الشمسيّ على بعد 26 ألف سنة ضوئيّة من مركز المجرّة، ويدور نظامنا حوله دورة كاملة كلّ 230 مليون سنة في ما يُعرف باسم "السنة المجرّيّة". وندرك  أيضاً أنّ مجرّة أندروميدا (أو مجرّة المرأة المسلسلة) تبعد عن مجرّتنا نحو 2.5 مليون سنة ضوئيّة وهي أكبر من حيث المساحة إذ يبلغ قطرها قرابة 220 ألف سنة ضوئيّة.

 

لا يعرف الإنسان العاديّ اليوم بديهيّات استعصت على العلماء قبل نحو قرن من الزمن وحسب. يمكن التفكير بعالم كونيّات شهير آخر هو كارل ساغان (1934-1996) لقياس التطوّر الكبير في فهمنا الأساسيّ. لو أنّ ساغان نفسه كان لا يزال على قيد الحياة حتى اليوم، لفوجئ بالأعداد الكبيرة من المجرّات التي يحتضنها الكون. وصل تقديره إلى وجود نحو 100 مليار مجرّة في الكون المرئيّ. لكن بحسب تقديرات أحدث، قد يكون هناك ما لا يقلّ عن 6 تريليونات مجرّة، إن لم يكن نحو 20 تريليوناً!

 
 

 

(سديم رأس الحصان بعدسة تلسكوب هابل)

 

مع ذلك، ثمّة أرقام أخرى تضع هذا العدد عند ما هو أقلّ من هذا الحدّ بكثير: بين 100 إلى 200 مليار مجرّة. بالنسبة إلى عدد النجوم في مجرّتنا، ما من جواب قاطع أيضاً، لكن يقول العلماء إنّ هذا الرقم يتراوح بين 100 مليار و400 مليار نجم. يقدّم عالم الفلك الراديويّ في جامعة مانشستر الدكتور ألاستير غان مقارنة ملموسة، فيقول إنّ الحدّ الأدنى لعدد النجوم في مجرّتنا يساوي تقريباً عدد جميع البشر الذين عاشوا على الأرض.

 

مهما يكن العدد الحقيقيّ للمجرّات، يبقى أنّ ساغان نفسه لم يتمكّن من تخيّل إمكانيّة أن تتجاوز أعداد المجرّات سقف الـ100 مليار. اليوم، يقع هذا الرقم عند الحدّ الأدنى من طيف الاحتمالات.

 

بين هابل ونيوتن وكانط

نادراً ما تكون الاكتشافات العلميّة نتاج جهد شخص واحد فقط. اعترف نيوتن في إحدى رسائله بأنّه "يتمكّن من الرؤية على نطاق أبعد بوقوفه على أكتاف العمالقة" في إشارة إلى أنّه يبني دراساته على خلاصات من سبقوه. وهكذا كلّ العلماء، بمن فيهم هابل. استخدم العالِم دراسات الضوء والسدم الحلزونيّة لكلّ من هنريتا ليفيت وفيستو سليفر، ليحقّق إنجازه.

 
 
 

اعتقد البعض قبل هابل أنّ هناك أكثر من مجرّة. المهندس البريطانيّ توماس رايت الذي كان واحداً منهم ألهم الفيلسوف إمانويل كانط فتحدّث عن "الأكوان-الجُزر". لكنّ هابل كان الوحيد الذي قطع الشكّ باليقين وحسم "المناظرة العظيمة" التي دارت حول هذا الموضوع سنة 1920 بين هارلو شابلي وهيبر كورتيس.

 

لهذا السبب، وجد البعض أنّ التغيير الذي أدخله هابل في نظرة الإنسان إلى الكون كان الأهمّ منذ 400 عام. كرّم العلماء هابل بإطلاق اسمه على واحد من أشهر التلسكوبات الحديثة، وعلى فوهة قمريّة وأحد الكويكبات (هابل 2069) في الحزام الواقع بين المشتري والمرّيخ. وأحد الألغاز المحيطة بتسارع الكون يُطلق عليه أيضاً اسم "توتّر هابل".

اقرأ في النهار Premium