مع التطور السريع الزخم لقدرات الذكاء الاصطناعي، بدأ ظهور بعض التأثيرات على الفضاء الاجتماعي والمنصات الاجتماعية، من المتوقع أن يكون لها انعكاسات مُثيرة للاهتمام مستقبلاً، خصوصاً مع تطلع المزيد من مديري الويب والناشرين إلى تحقيق أقصى قدر من التحسين وتبسيط الإنتاجية عبر الأدوات الرقمية المتقدمة.
وهناك تحول عميق الآن، فمع التقدم المستمر للذكاء الاصطناعي، يقف العالم على حافة مستقبل يهيمن فيه المحتوى الناتج من الذكاء الاصطناعي على مشهد وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن ماذا يحدث عندما يتفوق محتوى الذكاء الاصطناعي على المدخلات البشرية؟ ماذا سيحدث للإنترنت عندما يكون كل شيء مجرد نسخة من نسخة رقمية من الناتج البشري الفعلي؟
الأسبوع الماضي، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال في مقالة أن "أوبن إيه آي" فكرت في تدريب نموذج GPT-5 الخاص بها على نصوص "يوتيوب" المتاحة للجمهور، وسط مخاوف من أن الطلب على بيانات التدريب القيمة سوف يفوق العرض في غضون عامين.
ويؤكد الخبراء أن العالم سيكون أمام تحد كبير، لأنه على الرغم من أن المجموعة الجديدة من أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على إنتاج نص يشبه الإنسان في أي موضوع تقريباً؛ إلا أنه ليس "ذكاءً" في حد ذاته، إذ تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية منطق الآلة والافتراضات المشتقة لوضع كلمة تلو الأخرى بالتسلسل بناءً على أمثلة أنشأها الإنسان في قاعدة بياناتها، ولكن هذه الأنظمة لا تستطيع التفكير بنفسها وليس لديها أي وعي بما تعنيه البيانات التي تنتجها، فهي رياضيات متقدمة في شكل نصي ومرئي محددة بمنطق منهجي.
ونشأت منصّات التواصل الاجتماعي على قاعدة أنّها "اجتماعية"، وهذه هي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها لتعزيز الروابط الحقيقية بين الأفراد. ومع ذلك، فإن مشهد المحتوى الذي يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تآكل الأصالة التي تدعم هذه الروابط، نظراً لأن جوهر وسائل التواصل الاجتماعي يكمن في حرية التعبير والإبداع وتنوع التجارب الإنسانية، وقد يفتقر المحتوى الناتج من الذكاء الاصطناعي إلى العفوية والعمق العاطفي الذي يتردد صداه لدى المستخدمين.
بيد أن فكرة توظيف الروبوتات على المنصّات الرقمية ليست بالجديدة، حيث استخدمت في مجالات عدّة كزيادة الإعجابات والمشاركات، والإعلانات، ودراسة سلوك المستخدم، وغيرها. ولكن اليوم نحن أمام شكل آخر من توظيف الذكاء الاصطناعي على الشبكات الاجتماعية، حيث باتت تُدار الحسابات والصفحات عبر الآلة، التي تنشئ النص، وتتواصل مع الآخرين، وترد على التعليقات... إذاً هل تُبقي هذه التغييرات الصفة نفسها على هذه المنصّات بأنّها اجتماعية!
حالياً، تعمل المنصات الاجتماعية جاهدة على رفع الجدران حول مجموعات البيانات الخاصة بها، على سبيل المثال قامت شركة "إكس" (تويتر سابقاً) برفع سعر الوصول إلى واجهة برمجة التطبيقات API الخاصة بها، من أجل منع منصات الذكاء الاصطناعي من استخدام منشورات إكس، حيث تقوم بتطوير نموذج "غروك" الخاص بها بناءً على الشيء نفسه. كما قامت "ميتا" بتقييد الوصول إلى واجهة برمجة التطبيقات API منذ فترة طويلة، وخاصة منذ كارثة "كامبريدج أناليتيكا" Cambridge Analytica.
ومن جانبها، أبرمت "غوغل" مؤخراً صفقة مع "ريديت" لدمج بياناتها في أنظمة "جيميني" الخاصة بها، وهذه طريقة أخرى يمكن أن نتوقع رؤية المزيد منها، حيث تبحث المنصات الاجتماعية التي لا تتطلع إلى بناء نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها عن طرق جديدة لتحقيق الإيرادات من خلال أفكار.
ويبشر صعود المحتوى الناتج من الذكاء الاصطناعي بإنجازات تكنولوجية ملحوظة، ولكن انتشاره في كل مكان قد يكون له عواقب غير مقصودة على مستقبل وسائل التواصل الاجتماعي. بمعنى آخر، يمكن أن ينتهي الأمر سلبياً تماماً؛ وهذا ما عبّر عنه العديد من الخبراء في هذا السياق. إذ يمكن أن يؤدي إلى تقويض الجزء "الاجتماعي" من وسائل التواصل الاجتماعي تماماً.
لكن الإفراط في تشبّع المحتوى الناتج من الذكاء الاصطناعي يهدد بإضعاف جوهر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، أي التواصل البشري والإبداع وحرية التعبير عن أنفسنا بشكل أصيل. وبينما نتنقل في هذا المشهد التحويلي، يصبح الحفاظ على القيم الأساسية التي تحدد وسائل التواصل الاجتماعي أمراً بالغ الأهمية، عندها فقط يمكن ضمان أن تظل وسائل التواصل الاجتماعي قوة حيوية تعمل على تعزيز الروابط الحقيقية وإثراء حياتنا بطرق عميقة.