من المعلومات البديهية التي يتلقاها الطلاب في المدارس، أن الثورة الصناعية انطلقت في بريطانيا العظمى إبان القرن الثامن عشر، لكنّ ثمة تاريخاً جديداً افترضه العلماء أخيراً لهذا الحدث المحوري في تاريخ البشرية، يعود للقرن السابع عشر.
توصل باحثون في جامعة كامبريدج إلى هذا الافتراض عبر مشروع سمّوه "اقتصاديات الماضي" (economies past)؛ أكد خلاله العلماء أن فتيل الثورة الصناعية اشتعل منذ القرن السابع عشر، أي قبل مئة عام من التاريخ المعروف على نطاق واسع. وحظي المشروع بدعم وتمويل من مجلس البحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، وصندوق ليفرهولم، والأكاديمية البريطانية، وصندوق إسحاق نيوتن.
وتعرف الثورة الصناعية بأنها بداية عصر إحلال الآلة مكان العمل اليدوي، وزيادة الاعتماد على البحوث العلمية في تطوير عملية الإنتاج، وتعد صناعة النسيج أول الصناعات التي شهدت كثافة الإنتاج في زمن الثورة الصناعية.
لكن كيف يكتب العلماء اليوم تاريخاً جديداً للثورة الصناعية؟ يجيب عن هذا التساؤل لي شو تايلور، قائد المشروع، وأستاذ التاريخ الاقتصادي بكلية التاريخ في جامعة كامبريدج، في تصريحات خاصة لـ"النهار العربي"، إذ يقول إن "قصة هذا المشروع تعود إلى أكثر من 20 عاماً، حين أنجز البحث الأساسي بشأن هذه المسألة".
تعد صناعة النسيج أول الصناعات التي شهدت كثافة الإنتاج في زمن الثورة الصناعية
كتابة تاريخ جديد
في عام 2003 عمل شو تايلور على مشروع البحث الأساسي الذي تناول الهيكل المهني لبريطانيا من عام 1379 حتى عام 1911، استهدف المشروع آنذاك تحسين فهم الثورة الصناعية، من خلال مجموعات بيانات إحصائية قوية عن الوظائف والمهن المختلفة.
انطلاقاً من البحث الأساسي، أطلق الفريق البحثي أخيراً منصة إلكترونية، بالاعتماد على أكثر من 160 مليون سجل بريطاني؛ إذ تتبع التغييرات التي طرأت على القوى العاملة البريطانية عبر ثلاثة قرون، بداية من العصر الإليزابيثي (1558-1603) حتى عشية الحرب العالمية الأولى.
يظهر البحث الجديد أن بريطانيا في القرن السابع عشر شهدت انخفاضاً حاداً في عدد المزارعين. في المقابل ارتفع عدد المصنعين، مثل الحرفيين المحليين؛ كالحدادين، وصانعي الأحذية والعجلات، فضلاً عن توسع شبكات النساجين المنزليين الذين ينتجون القماش للبيع بالجملة.
يقول المؤرخون إن البيانات تشير إلى أن بريطانيا كشفت عن وجهها كأول قوة صناعية في العالم، قبل أجيال عدة من المطاحن والمحركات البخارية التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر، التي عرفت منذ فترة طويلة باعتبارها منبع الثورة الصناعة العالمية، وما تبعها من استدامة في النمو الاقتصادي.
يقول شو تايلور: "من خلال فهرسة ورسم خرائط من بيانات التوظيف عبر ثلاثة قرون، يمكننا أن نرى أنّ القصة التي نرويها لأنفسنا عن تاريخ بريطانيا باتت في حاجة إلى إعادة كتابتها. لقد اكتشفنا تحولاً نحو العمالة في تصنيع السلع يشير إلى أن بريطانيا صنعت بالفعل قبل أكثر من قرن من الثورة الصناعية".
اعتمد الباحثون في فرضيتهم على أكثر من 160 مليون سجل بريطاني
مصانع بلا آلات
إلى حد بعيد، كانت الصناعة المبكرة الأكثر أهمية هي صناعة المنسوجات الصوفية؛ إذ لم يصبح القطن مهماً حتى أواخر القرن الثامن عشر. كما أن صناعة المعادن أيضاً كانت من بين الصناعات الرائجة في هذه الحقبة.
وبسبب انتشار هذه الصناعات في القرن السابع عشر، انخفض عدد المزارعين الذكور في بريطانيا بأكثر من الثلث (من 64 بالمئة إلى 42 بالمئة) خلال الفترة بين عامي 1600-1740. في الوقت نفسه، ارتفعت حصة القوى العاملة الذكورية المشاركة في إنتاج السلع بنسبة 50 بالمئة إلى أقل بقليل من نصف الرجال العاملين (من 28 بالمئة إلى 42 بالمئة) في الفترة من 1600-1700.
وفقاً لتقديرات شو تايلور، كانت حصة القوى العاملة البريطانية من المهن المرتبطة بالتصنيع بدلاً من الزراعة تقدر بثلاثة أضعاف حصة فرنسا بحلول عام 1700.
وفي الوقت الذي حظرت فيه دول أوروبية إنتاج المنسوجات في الريف، تركز نصف العمالة الصناعية في الريف البريطاني عام 1700. يقول شو تايلور: "بالإضافة إلى الحرفيين القرويين، كان ثمة شبكات من النساجين في المناطق الريفية، يعملون لدى تجار يزودونهم بالصوف، ثم يبيع التجار المنتجات النهائية".
يعتبر الأكاديمي البريطاني أن القوى العاملة البريطانية في صناعات النسيج والمعادن كانت بمثابة "مصانع بلا آلات" في تلك الفترة. على سبيل المثال، في مقاطعة غلوسترشاير، شهدت التوسعات في المنسوجات والأحذية والمعادن نمو حصة القوى العاملة من الذكور في الصناعة من الثلث (33 بالمئة) إلى النصف تقريباً (48 بالمئة) خلال القرن السابع عشر.
وفي لانكشاير، نمت حصة الرجال في أعمال التصنيع من 42 بالمئة في عام 1660 إلى 61 بالمئة في عام 1750، مدفوعة بمضاعفة عمال النسيج (من 15 بالمئة إلى 30 بالمئة). حدث كل هذا قبل الثورة الصناعية.
المفارقة أنه بحلول منتصف القرن الثامن عشر الذي يعتبر بداية الثورة الصناعية، تراجع التصنيع في جنوب إنكلترا وشرقها بالفعل، إلى درجة أن هذه المناطق عادت إلى العمل الزراعي.
على سبيل المثال، ربما كانت نورفولك المقاطعة الأكثر تصنيعاً في القرن السابع عشر؛ حيث عمل نحو 63 بالمئة من الرجال البالغين في الصناعة بحلول عام 1700. ولكن هذه النسبة انخفضت بالفعل إلى 39 بالمئة خلال القرن الثامن عشر، فيما قفزت حصة القوى العاملة الذكور في الزراعة من أقل من الثلث (28 بالمئة) إلى أكثر من النصف (51 بالمئة).
على هذا النحو، وعلى عكس الروايات التاريخية السائدة، تضاءل انتشار الصناعات في الريف كثيراً خلال القرن الثامن عشر. ومنذ أواخر القرن السابع عشر، أصبحت صناعة النسيج تتركز أكثر فأكثر في حقول الفحم في لانكشاير وويست ريدينغ أوف يوركشاير، تبعاً لما يقول شو تايلور.
انتشرت عمليات التصنيع في الريف البريطاني عكس ما حدث في أوروبا
عوامل محتملة
لدى سؤاله عن الأسباب التي قادت إلى الثورة الصناعية مبكراً، يقول تايلور: "أود التأكيد أن مشروعنا يهدف إلى تحسين التوثيق لما حدث في الثورة الصناعية. ومن الأفضل التحقيق في التفسيرات بعد أن نعرف ما نحتاج إلى شرحه".
يتابع: "في الوقت الحالي، أزعم أننا لا نفهم أسباب الانتشار المبكر للتصنيع. وسيكون من الحكمة من وجهة نظري أن نحدد متى بدأ هذا النمو بالفعل قبل أن نحاول تفسيره. ما زلنا لا نعرف ما يكفي عما حدث في القرن السادس عشر".
ومع ذلك، يتوقع تايلور عدداً من العوامل المهمة المحتملة، التي تقف وراء الانطلاق المبكر للثورة الصناعية، إذ يقول: "من المحتمل أن يكون أحد العوامل الرئيسية يكمن في المستعمرات البريطانية التي قدمت سوقاً حرة واسعة جداً للمصنعين الإنكليز".
ويرى أيضاً أن انخفاض عدد الرسوم الداخلية ومحدودية القيود على النقابات من الأمور التي ساعدت في تنشيط الصناعة، ويقول: "عموماً، قدمت إنكلترا وويلز مؤسسات جيدة نسبياً ساعدت على التنمية الاقتصادية، وشجعت أسرة تيودور (1485- 1603) نمو الصناعات الجديدة".
ويلفت إلى أن "العامل الرئيسي في الحفاظ على هذا النمو المبكر تمثل في توافر الفحم على نطاق واسع، وتالياً كان من السهل العثور عليه. كما أن ثمة عوامل أخرى تشمل الخط الساحلي الطويل، والأنهار الصالحة للملاحة، التي توفر نقلاً رخيصاً للبضائع في جميع أنحاء البلاد. كما أن الغياب الفعلي للصراع الداخلي منذ حكم أسرة تيودور عام 1485 قد يكون مهماً أيضاً، بينما كان العامل الرئيسي الآخر هو زيادة الإنتاجية في الزراعة".
يختتم لي شو تايلور حديثه بالإشارة إلى أن الخطوات التالية في المشروع تتمثل في الحصول على بيانات كافية عن توظيف الإناث قبل تعداد عام 1851، وتوسيع نطاق البيانات المتعلقة بتوظيف الذكور حتى القرن السادس عشر؛ إذ إن عملية توثيق عمالة الإناث في فترة ما قبل التعداد أصعب بكثير من توثيق عمالة الذكور.