لقد كان الرجلَ الذي ارتبط اسمه بتلك الكلمة الغريبة، "بوزون هيغز"، إن لم يكن بالاسم الشعبيّ الأوسع انتشاراً، "جسيم الرّبّ". غادر عالم الفيزياء بيتر هيغز عالمنا الأسبوع الماضي عن عمر يناهز 94 عاماً بعدما ترك بصمة إيجابيّة في فهم البشريّة لأحد ألغاز الكون.
"مفهوم حقل بوزون أو بوزون هيغز فريد في فيزياء الجسميات. إنّه لا يشبه أيّ شيء آخر رأيناه"، على ما يقول أستاذ فيزياء الجسيمات في جامعة كامبريدج مارك تومسون في حديث إلى صحيفة "فايننشال تايمز". وتومسون مرشّح لأن يكون المدير العام التالي للمنظّمة الأوروبيّة للأبحاث النووية "سيرن" والتي لعبت دوراً مهماً في تأكيد أبحاث هيغز.
وُلد هيغز في نيوكاسل سنة 1929. خلال سنوات التعليم، تأثّر ببول ديراك الذي اعتُبر أحد آباء فيزياء الكمّ، وقد نال أيضاً برفقة إرفين شرودينغر جائزة نوبل سنة 1933 لاكتشافه أشكالاً منتجة جديدة للنظريّة الذريّة. صاغ ديراك كلمة "بوزون" تحيّة إلى عالم الفيزياء الهنديّ ساتييندرا ناث بوز (جسيم بوز). والبوزون نوع من الجسيمات الأوّليّة يمكن أن يكون في الحالة الكموميّة نفسها، بعكس الفرميونات مثلاً.
(بول ديراك - تويتر)
حصل هيغز على الدكتوراه في الفيزياء من كلية الملك في لندن سنة 1954. وأصبح محاضراً في الفيزياء الرياضيّة في جامعة إدنبره البريطانيّة سنة 1960.
نظريّته
لن يتأخّر هيغز كثيراً في العمل على ما سيتحوّل إلى إنجاز فيزيائيّ ضخم. سنة 1964، كتب هيغز ورقتين صغيرتين تحدّدان أفكاره بشأن الآليّة التي يمكن أن تعطي الكتلةَ للجسيمات الأوّليّة أو اللبنات الأساسيّة للكون. فبعد الانفجار العظيم، لم تملك الجسيمات كتلة محدّدة.
في الورقة الأولى، وصف هيغز ما سيصبح لاحقاً معروفاً باسم "آليّة هيغز" التي تصف كيف أنّ حقلاً عددياً (scalar field)، أي حقلاً منتشراً في كلّ نقاط الفضاء، يمنح الجسيمات الكتلة. رفضت المجلّة التي نشر فيها بحثه ورقته الثانية. قام هيغز بمراجعتها وعمل على إضافة كبيرة فتنبّأت نظريّته بوجود بوزون ثقيل. من دون هذا البوزون لما أمكن للكون أن يترابط كما هو اليوم.
CERN pays tribute to Peter HiggsPeter Higgs’ scientific legacy will extend far beyond the scope of current discoveries. The Higgs boson is linked to some of the most intriguing and crucial outstanding questions in fundamental physics. This still quite mysterious particle… pic.twitter.com/2TrNFEvoZV— CERN (@CERN) April 10, 2024
في توضيح أسهل قدّمه هيغز نفسه، شبّه الحقل الذي فسّره بميدان يغمره الثلج. يجتاز أشخاص مختلفون (في تمثيل للجسيمات) هذا الميدان، فيغرق الذين يرتدون أحذية عاديّة في الثلج، الأمر الذي يؤدّي إلى اكتسابهم الكتلة الأكبر. أمّا الذين يرتدون أحذية ثلجيّة فسيغرقون أقلّ ويكتسبون بالتالي كتلة أقلّ. أخيراً، هناك الذين يمارسون التزلّج. هؤلاء، وبالنظر إلى أنّ احتكاكهم بالثلج هو الأدنى، لا يكتسبون أيّ كتلة، كما هي الحال بالنسبة إلى بعض الجسيمات. إذاً، يمثّل حقل الثلج حقل بوزون وبلّورات الثلج بوزون هيغز.
"عليه أن يأتي... وإلّا فسيندم!"
طوال سنوات، طارد العلماء ذلك الجسيم من دون جدوى. تقاعد هيغز من عمله سنة 2006 من دون أن يكون هناك أيّ مؤشّر إلى أنّ البوزون الخاصّ به قريب من الاكتشاف. هذا مع العلم أنّ مصادم هادرون الكبير التابع لـ"سيرن" كان قد حاول رصد البوزون قبل تقاعده من دون أيّ نتيجة.
أسعف الحظّ هيغز لأنّ العلماء كانوا سيشهدون على صحّة توقّعه خلال حياته. حصل ذلك سنة 2012. تمّ بناء مصادم الهادرونات الكبير لمحاكاة الظروف التي سادت خلال الأجزاء الصغيرة الأولى (واحد على مليار) من الثانية الأولى التي تلت الانفجار العظيم. هناك، يسرّع العلماء الجسيمات ما دون الذّريّة إلى أرقام قريبة من سرعة الضوء قبل أن يصدموها ببعضها البعض ليراقبوا التفاعل ويدرسوا طبيعة المادّة في أدقّ أشكالها. بعدما صدرت النتائج الأولى، قال أحد العلماء: "على بيتر أن يأتي إلى حدث سيرن أو سيندم!". بعد ما يقرب من نصف قرن على نشر أبحاثه، تمّ أخيراً رصد البوزون.
في سنة 2013، فاز هيغز، برفقة فرانسوا إنغلرت الذي ساهم في النظريّة، بجائزة نوبل للفيزياء عن هذا الاكتشاف.
لماذا سمّي "جسيم الربّ"؟
قد يكون الأمر مفاجئاً، لكن لم يكن للدين علاقة بالتسمية، حتى من بعيد. لقد كان هيغز نفسه غير مؤمن بالرغم من أنّه لم يتّخذ موقفاً معادياً للدين. على العكس من ذلك، وقف بقوّة ضدّ العالِم البريطانيّ ريتشارد دوكينز (المشهور بكتابه "وهم الإله") واصفاً إيّاه بأنّه يمثّل نوعاً آخر من التطرّف لأنّه نادى، من جملة ما نادى به، بعدم إمكانيّة التوفيق بين الدين والعلم.
(جانب من مصادم الهادرونات الكبير - أب)
قال هيغز في مقابلة مع صحيفة إسبانيّة سنة 2012 إنّ نموّ فهم الإنسان للعالم يُضعف بعض الحوافز التي تجعل الناس مؤمنين، "لكن هذا لا يعني أنّه لا يمكن التوفيق بينهما... أيّ شخص مقتنع لكنّه ليس مؤمناً دوغمائياً يمكن أن يواصل اعتناق إيمانه". وأوضح أنّ العديد من العلماء في مجاله لا يزالون مؤمنين متديّنين بالرغم من أنّه "يصدف ألّا أكون شخصياً واحداً منهم".
أتت التسمية بطريقة غير مباشرة من عالِم آخر حائز جائزة نوبل للفيزياء ليون ليدرمان (1922-2018). أراد ليدرمان (بالتعاون مع الكاتب الأميركيّ ديك تيريسي) تأليف كتاب عن الموضوع تحت عنوان "الجسيم اللعين" “Goddamn Particle” للإشارة إلى مدى مراوغة الجسيم للعلماء طوال فترة من الزمن. لكنّ دار النشر فضّلت تلطيف العنوان فأسقطت جزء damn. صدر الكتاب سنة 1993 تحت عنوان: "جسيم الرب: إذا كان الكون هو الجواب، فما هو السؤال؟".
ماذا عن رأي هيغز؟
في الواقع، لم يستسغ هيغز التسميتين: لا تلك التي ارتبطت باسمه ولا التي ارتبطت بالله.
كان هيغز رجلاً متواضعاً ويتجنّب الأضواء. قالت رئيسة "سيرن" فابيولا غيانوتي لـ"بي بي سي" إنّ "بيتر كان رجلاً مميّزاً جداً وشخصيّة ملهمة بشكل هائل لعلماء الفيزياء حول العالم، رجلاً ذا تواضع نادر، ومعلّماً عظيماً... شرح الفيزياء بطريقة بسيطة جداً، ومع ذلك عميقة جداً".
ما بعد رحيله
قد لا ينهي رحيل هيغز عن العالم مساهماته في تحسين نظرتنا إلى الكون. يعتقد الفيزيائيّ ميخائيل شافنيكوف من المعهد الفدراليّ السويسريّ للتكنولوجيا أنّ بإمكان بوزون هيغز أن يقف خلف التضخّم البدائيّ الذي أطلق العنان لتوسّع الفضاء السريع مع الانفجار العظيم.
أمّا طويوكو أوريموتو، عالم الفيزياء الاختباريّة في جامعة نورث إيسترن (ماساشوستس)، فيشير إلى أنّ أبحاثاً إضافيّة في هيغز بوزون قد تكشف مصير الكون بناءً على حجم استقراره: "عوضاً عن إغلاق فصل في فيزياء الجسيمات، فتح اكتشاف بوزون هيغز فصلاً جديداً مؤذناً بحقبة متجدّدة عند أعلى حدود الطاقة".