النهار

الذّكاء الاصطناعي التّوليدي: اختبار لغريزتنا في البقاء
المصدر: النهار العربي
فيما تقف البشرية على عتبة عصر جديد في التكنولوجيا، يُوشك الذكاء الاصطناعي التوليدي أن يصبح لاعباً رئيسياً في تغيير قواعد اللعبة. إذ يُفترض بهذا المجال الناشئ، الذي لا يزال في مرحلته الأولى، أن يطيح بحدود ما يمكن أن تحققه الآلات وصولا إلى ما نعتبره اليوم بمثابة الخيال العلمي
الذّكاء الاصطناعي التّوليدي: اختبار لغريزتنا في البقاء
دماغ إلكتروني (ستوك أدوب)
A+   A-

أحمد حيدر

فيما تقف البشرية على عتبة عصر جديد في التكنولوجيا، يُوشك الذكاء الاصطناعي التوليدي أن يصبح لاعباً رئيسياً في تغيير قواعد اللعبة. إذ يُفترض بهذا المجال الناشئ، الذي لا يزال في مرحلته الأولى، أن يطيح حدود ما يمكن أن تحققه الآلات وصولاً إلى ما نعتبره اليوم بمثابة الخيال العلمي.

 

نحن حالياً في مرحلة الذكاء الاصطناعي الضيق  (ANI)، حيث تتميز الآلات بالقدرة على أداء مهام محددة، ونستخدم وسائله يومياً عبر الهواتف الذكية. الهدف التالي هو الذكاء الاصطناعي العام  (AGI)، حيث ستكون القدرة الفكرية للآلة مساوية لقدرة الإنسان. وهو ما تجهد كبار شركات التكنولوجيا على تطويره اليوم. وأخيراً، الذكاء الاصطناعي الخارق (ASI)، حيث ستتجاوز الآلات القدرات البشرية، وندخل معها آفاقاً خطيرة تهدد وجود الجنس البشري أو أقله وجوده بحمضه النووي الحالي.

 
 
 

يُقدر حجم سوق الذكاء الاصطناعي التوليدي العالمي بـ 43.87 مليار دولار أميركي في عام 2023، حسب إحصاءات "Fortune Business Insights" ومن المتوقع أن ينمو بوتيرة مذهلة. فبحلول نهاية عام 2024، من المتوقع أن يصل حجم السوق إلى 67.18 مليار دولار؛ وبحلول عام 2030، من المتوقع أن يتجاوز 967.65 ملياراً، بنمو سنوي مركب هائل يبلغ 39.6%.

 

يعود نمو هذه السوق أساساً إلى الحاجة المتزايدة لخلق عوالم افتراضية في الـ“ميتا-فيرس"، وتعزيز قدرات المحادثة للذكاء الاصطناعي عبر نشر نماذج اللغة الكبيرة  (LLM). وكان لجائحة كورونا تأثير إيجابي على السوق حيث انتقلت الشركات إلى نماذج العمل عبر الإنترنت وأصبحت الصناعات أكثر رقمية.

 

آليات الدفع القطاعية

ولكن ما هي أبرز التأثيرات المتوقعة للذكاء الاصطناعي التوليدي على مختلف نواحي الاقتصاد وقطاعاته؟

تشير محاكاة قام بها معهد ماكينزي على 63 حالة استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في شركات من مختلف القطاعات، إلى أن استخدام هذه التكنولوجيا سيزيد الإنتاجية ما بين 2.6 و4.4 تريليونات دولار سنوياً، وهنا أبرزها:

 
  • 1-الإنتاجية والنمو الاقتصادي: من المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي كثيراً في النشاط الاقتصادي العالمي. فبحلول عام 2030، تقدر محاكاة ماكنزي، أن تكون 70% من الشركات قد اعتمدت على الأقل نوعاً واحداً من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مع ما يمكن أن يؤدي إلى تغييرات جذرية في طريقة عيش الناس وعملهم.
  •  
  • 2-الرعاية الصحية: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث ثورة في الرعاية الصحية، من تحسين التشخيص وخطط العلاج إلى تحسين رعاية المرضى وإدارة المستشفيات. يُقدر أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من خلق ما بين 150 و260 مليار دولار، بينها 60 و110 مليارات دولار سنوياً في تصنيع الأدوية والمنتجات الطبية.
  •  
  • 3-المالية: يتم استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع المالي للتداول العالي التردد، وإدارة المخاطر، والتحليلات التنبئية. من المتوقع أن يولد استخدام الذكاء الاصطناعي في المالية ما بين 200 و340 مليار دولار في القيمة السنوية.
  •  
  • 4-الصناعة المتقدمة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين عمليات الإنتاج، وتحسين إدارة سلسلة التوريد، وتعزيز تصميم المنتج في قطاع الصناعة المتقدمة. يمكن أن تتراوح القيمة السنوية المحتملة التي يخلقها الذكاء الاصطناعي في القطاع ما بين 170 و290 مليار دولار.
  •  
  • 5-التجزئة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين تجربة العملاء، وتحسين إدارة المخزون، وتحسين استراتيجيات التسويق في قطاع التجزئة. يمكن أن تتراوح القيمة السنوية المحتملة التي يخلقها الذكاء الاصطناعي في التجزئة ما بين 400 و660 مليار دولار.
  •  

اعتراضات فلسفية وجودية

هذه الأرقام على أهميتها بالنسبة للمستثمرين على المدى البعيد لجهة تشكيل محفظتهم التحوطية من أسهم شركات معرضة إيجاباً للذكاء الاصطناعي، إلا أنها تبقى توقعات يُرجّح أن تتقلب بحسب تطور هذه التكنولوجيا. لعل أهم المعوقات لهذا القطاع تستند إلى اعتراضات فلسفية وجودية. فيما نفوض المزيد من المهام والقرارات لهذه الأنظمة، إمكانية تفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في العديد من المجالات تثير مخاوف حول دور الإنسان وقيمته في المجتمع.

 

علاوة على ذلك، تعتبر قدرة الذكاء الاصطناعي على إنشاء محتوى لا يمكن التمييز بينه وبين المحتوى الذي أنتجه الإنسان تشويشاً على الخط الفاصل بين الإنسان والآلة، ما يتحدى فهمنا للإبداع والأصالة. هناك أيضاً اعتبارات أخلاقية حول الاستخدام المحتمل للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك انتشار المعلومات الخاطئة، وانتهاك الخصوصية، وتضخيم التحيزات المجتمعية.

 

أدت هذه المخاوف إلى دعوة العديد من العلماء، بمن في ذلك مالك شركة "تسلا" إيلون ماسك، إلى وقف البحث في الذكاء الاصطناعي لفترة زمنية. يجادلون أنه يتعين علينا أن نتوقف قليلاً وننظر بعناية في الأخطار المحتملة والآثار المترتبة على الذكاء الاصطناعي قبل أن نواصل دفع حدود هذه التكنولوجيا. برأيهم، هناك حاجة إلى منهج مدروس ومسؤول في تطوير الذكاء الاصطناعي، يعتبر رفاهية الإنسانية فوق كل شيء.

 

خطر انهيار الأسواق

في المقابل، قد يكون وقف البحث في الذكاء الاصطناعي وإن لفترة من الزمن، شبه مستحيل، وله تأثيرات كارثية، قد يعكر صفو العمليات والأنشطة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي. بالتالي، قد نشهد انهياراً غير مسبوق في سوق التكنولوجيا وربطاً كل الأسواق المالية حول العالم.

 

إذ شهدت الشركات المرتبطة بالقطاع زيادة كبيرة في الأسهم منذ بداية "جنون" الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، شهدت  Nvidia، اللاعب الرئيسي في سوق الذكاء الاصطناعي، زيادة بنسبة 160% في أسهمها خلال عام 2023. كما ساعدت الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في زيادة مؤشر ناسداك المركب بنسبة 23% في ذلك العام.

 

أهمية هذه الأرقام تكمن بأن السوق استبقت خلال ثلاث سنوات كل المؤشرات الإيجابية المتوقعة من تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على الاقتصاد العالمي. رهانها واضح على استمرار تطوير هذه التكنولوجيا دون تدخلات حكومية رادعة تشبه ما حصل في مجال تكنولوجيا الاستنساخ، ولا سيما البشري منه.

 

لن نتطرق باستفاضة إلى المخاوف لتعرض ما يزيد عن 300 مليون وظيفة لخطر الاندثار بسبب المكننة حسب "غولدمان ساكس"، كون التحول التكنولوجي قد يخلق وظائف بديلة، إذ 60% من الوظائف عام 2018 لم تكن موجودة عام 1940.

 

الأمر الأساسي يتعلق بأن قطار تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي قد انطلق. لا عودة إلى الوراء الآن بعد ربطه بالـ“ويب" وبمحركات البحث. حتى ماسك أقر بأحد تعليقاته على منصة "إكس" التي يمتلكها بأن أي شركة لا تستثمر 10 مليارات دولار سنوياً بالذكاء الاصطناعي لن يكون لديها القدرة على المنافسة. وعند مواجهته من قبل أحد المعلقين بأنه يساهم باجتياح الآلات لعالمنا، قال إنه حذر من ربط الذكاء الاصطناعي بالشبكة ولكن لم يستمع أحد له. كلامه جاء في خضم المنافسة والمعركة الجانبية بينه وبين رئيس مجلس إدارة open AI سام ألتمان الذي فجر فورة الذكاء الاصطناعي التوليدي عبر إطلاق برنامج Chat GPT.

 

هذه المعركة تنطبق أيضاً على صعيد الدول ذات المصالح المتناقضة. فالولايات المتحدة استقطبت 249 مليار دولار من الأموال الخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي حتى عام 2023 تليها الصين بـ95 ملياراً، استناداً إلى أرقام المجموعة المالية Mirae Assets. الطرفان يعرفان أن أي اتفاق لتجميد تطوير هذه التكنولوجيا علناً سيسمح للطرف الآخر باستكمالها سراً، وبالتالي سيبقى الذكاء الاصطناعي مشبوكاً بالـ"ويب". باختصار، إنه عدو لا بد منه واختبار لغريزتنا في البقاء.

اقرأ في النهار Premium