النهار

النهار

"النّينيا" عائدة... كيف قد تؤثّر على طقس الشّرق الأوسط؟
جورج عيسى
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
بحسب "الإدارة الوطنيّة للمحيطات والغلاف الجوّيّ"، يصل احتمال عودتها إلى 60 في المئة.
"النّينيا" عائدة... كيف قد تؤثّر على طقس الشّرق الأوسط؟
في بعض المناطق، تساهم "النّينيا" في زيادة الفيضانات (ريد لودج، ولاية مونتانا 2022 - أب)
A+   A-

ستعود ظاهرة "لا نينيا" أو "النّينيا" لترافق العالم مجدّداً بعد توقّعات أوّليّة بحلولها مكان نقيضتها، ظاهرة "إل نينيو" أو "النّينيو" التي سادت خلال الأشهر الماضية. تشير ظاهرة "النّينيو" إلى ارتفاع مطوّل في درجات حرارة سطح مياه المنطقة الاستوائيّة من المحيط الهادئ وبالتحديد في الجهة الوسطى والشرقيّة منه. أمّا "النّينيا" فتشير إلى انخفاض مطوّل في درجات حرارة المياه ضمن المنطقة نفسها.

 

تبلغ ظاهرة "النّينيو" ذروتها بحلول عيد الميلاد تقريباً في كانون الأوّل (ديسمبر)، ومن هنا يُرجَّح أن يكون صيّادو الأسماك في البيرو قد اختاروا التسمية التي تعني "الطفل" (بالإسبانيّة) أو "طفل الميلاد". وكان صيّادو الأسماك في البيرو يلاحظون انخفاض مردود صيدهم في تلك الفترة. على العكس من ذلك، حين تسود "النّينيا" (أي الطفلة بالإسبانيّة)، يرتفع مردود الصيد لأسباب ستُذكر لاحقاً.

 

أرقام قياسيّة

لمنطقة انتشار "النّينيو" و"النّينيا" أهميّة خاصّة بالنسبة إلى المناخ. بما أنّ المحيط الهادئ هو أكبر مسطّح مائيّ على كوكب الأرض، وبما أنّ المياه ناقلٌ حراريّ كبير، يهتمّ العلماء بهذه الظاهرة لمعرفة تداعياتها الجويّة على مختلف مناطق الأرض. ساهم "النّينيو" السنة الماضية بتضخيم مفاعيل التغيّر المناخيّ والاحتباس الحراريّ. حطّمت سنة 2023 الرقم القياسيّ في الاحترار فسجّلت زيادة في معدّل درجات حرارة الأرض بالمقارنة مع فترات ما قبل الثورة الصناعيّة بـ1.45 درجة مئويّة.

 

كان الرقم القياسيّ السابق مسجّلاً عن سنة 2016 (أيضاً بالتزامن مع نينيو قويّ جداً) مع زائد 1.29 درجة عن خطّ المقارنة الأساس (1850-1990). وفي سنة 2023 أيضاً، ضربت موجات الحرّ البحريّة البحر الأبيض المتوسّط للعام الثاني عشر على التوالي. يقول مايكل ماكفايدن من الإدارة الوطنيّة للمحيطات والغلاف الجويّ إنّ السنة الماضية كانت "سنة مذهلة على مستوى الأرقام القياسيّة المسجّلة حول العالم بسبب الحرّ المتطرّف".

  

حالياً، هناك احتمال يبلغ 60 في المئة كي ترخي "النّينيا" بثقلها على المحيط الهادئ بدءاً من الصيف المقبل بحسب "الإدارة الوطنيّة للمحيطات والغلاف الجوّيّ" (نوا). وعادة ما تتواتر هاتان الظاهرتان كلّ عامين إلى سبعة أعوام وتدومان ما بين 9 إلى 12 شهراً بالرغم من أنّهما قد تدومان أعواماً في بعض الأحيان. سادت ظروف "النّينيو" الأخيرة نحو 7 أشهر.

 

بمجرّد أن تتأسّس في المحيط الهادئ، قد تدوم "النّينيا" أكثر من عام بحسب ما توضحه لـ"النهار العربيّ" رئيسة مختبر العلوم البيئيّة والجيوفيزيائيّة في جامعة خليفة البحثيّة الدكتورة ديانا فرنسيس.

 

ما هي الديناميّة العامّة للظاهرتين؟

تعدّ "النّينيو" و"النّينيا" وجهين لظاهرة أوسع هي "النّينيو-التذبذب الجنوبيّ" (أو اختصاراً إنسو ENSO) التي تصف تشابك الديناميّات بين الغلاف الجوّيّ وحرارة سطح مياه المنطقة الوسطى من المحيط الهادئ. عادةً ما تهبّ الرياح التجاريّة من شرق المحيط الهادئ (السواحل الغربيّة لأميركا اللاتينيّة القريبة من خطّ الاستواء) نحو أستراليا وشرق آسيا. تنقل الرياح معها الحرارة نحو أستراليا والمنطقة القريبة منها فتتبخّر المياه هناك مطلقة رطوبة في الجوّ تتحوّل إلى أمطار غزيرة.

 

تحدث ظاهرة "النّينيو" حين تنعكس هذه الديناميّة، أي عندما تتباطأ الرّياح التجاريّة وترتفع حرارة سطح المياه في شرق المنطقة الاستوائيّة من الهادئ بأكثر من 0.5 درجة مئوية لثلاثة أشهر متتالية بالمقارنة مع المعدّلات التاريخيّة. بينما تحدث "النّينيا" حين تبرد المياه أكثر من اللازم (أيضاً بأكثر من 0.5 درجة لثلاثة أشهر على الأقل) بفعل تعزّز قوّة الرياح التجاريّة تعززاً أكبر من المعتاد ممّا ينقل الحرارة بشكل أكبر وأبعد نحو الغرب.

المزيد من التوضيح في الفيديو أدناه للمكتب البريطانيّ للأحوال الجويّة:

 
 
 

 

ما هو تأثير "النّينيا" على الأحوال الجويّة حول العالم؟

بالرغم من التطوّر الكبير الذي شهده خلال العقود الأخيرة، لا يزال علما الأرصاد الجويّة والمناخ فتيّين على مستوى ربط الظواهر واستنتاج تأثيراتها على المديين المتوسّط والبعيد. على سبيل المثال، لا يزال السبب المباشر لحدوث كلّ من النّينيو والنّينيا مجهولاً. لكن كفكرة أوّليّة، لاحظ علماء المناخ والأرصاد الجويّة بعض الاتّجاهات الواسعة النطاق التي تترافق مع النّينيا، علماً أنّه من غير الضروريّ أن تتحقّق هذه النتائج عند كلّ رصد لهذه الظاهرة.

 

على سبيل المثال، تدفع "النّينيا" التيّار النفّاث إلى خطوط العرض العليا من الأرض، ما يؤدّي إلى نشر الجفاف في جنوب ووسط الولايات المتحدة. بينما يصبح الشمال الأميركيّ أكثر برودة (بخاصّة في الغرب) كما أكثر رطوبة. وتعمل "النّينيا" أيضاً على زيادة الأعاصير في المحيط الأطلسيّ بسبب انخفاض قوّة رياح القصّ (wind shear) التي تثبط تشكّلها. ويحدث العكس على الضفّة الأخرى من المحيط الهادئ.

 
 
 

رسم توضيحيّ من "نوا" عن الفرق بين النينيو والنينيا على الأحوال الجوية في الولايات المتحدة

 

وينخفض الضغط الجوّيّ في غرب المحيط الهادئ، الأمر الذي يؤدّي إلى تساقط أمطار أكثر في شرق ووسط آسيا خلال الرياح الموسميّة الصيفيّة، وخصوصاً الهند وبنغلادش حيث قد تكون "النّينيا" أكثر فائدة للاقتصاد الهنديّ من "النّينيو". لكن حين تكون النّينيا متطرّفة تصبح احتمالات الفيضانات أكبر كما حصل سنة 2010 في أستراليا. ومؤخّراً نبّهت إدارة الأحوال الجويّة في الصين إلى ضرورة الاستعداد للفيضانات وأحوال جويّة عنيفة أخرى كالأعاصير بسبب "النّينيا".

 

وتتأثّر أفريقيا بالنّينيا على شكل أمطار أكثر في الجنوب وعلى شكل آخر في القرن الأفريقيّ وأفريقيا الوسطى. في أوروبا، عادة ما يكون الشتاء أقلّ رطوبة وسط ظروف "النّينيا" باستثناء الجنوب وأجزاء من الشمال. وبما أنّ أوروبا أبعد جغرافيّاً من مصدر "النّينيا" و"النّينيو"، يصبح رصد الروابط بين هاتين الظاهرتين وأيّ ظروف مناخيّة لاحقة أكثر صعوبة فوق القارّة العجوز.

 
 

ماذا عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، عودة سريعة إلى أسباب فرح صيّادي الأسماك في السواحل الغربيّة من أميركا الجنوبيّة بالنّينيا. حين تكون الرّياح التجاريّة أقوى من المعتاد وتدفع بالمياه الساخنة غرباً، أي من سواحل أميركا اللاتينيّة القريبة من خطّ الاستواء باتّجاه أستراليا، تتحرّك التيّارات تحت سطح المحيط الهادئ بشكل يدفع المياه الباردة إلى الارتفاع من أعماق المحيط باتّجاه الشواطئ. تُعرف هذه الظاهرة باسم “upwelling”. هي تجلب معها المياه الغنيّة بالمكوّنات الغذائيّة إلى السطح مثل العوالق التي تأكلها الأسماك والقشريّات. والأسماك المفترسة ضمن السلسلة الغذائيّة الأعلى تفترس القشريّات فتتبعها إلى الأعلى.

 

بالنّسبة إلى الأحوال الجويّة المتوقّعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تجدر الإشارة إلى أنّ ما ينطبق على أوروبا ينطبق على منطقتنا إلى حدّ كبير لجهة بعدها الجغرافيّ عن المحيط الهادئ. وبالنظر إلى بعد الفترة الزمنيّة أيضاً، تصبح التوقّعات بالغة الصعوبة إن لم تكن شبه مستحيلة. للتّذكير، إنّ التنبّؤ بالأحوال الجويّة لما هو أبعد من ثلاثة إلى أربعة أيّام دونه عقبات، فكيف الحال بالنسبة إلى أشهر طويلة؟ لكن إذا كان بالإمكان العودة إلى الماضي لتكوين صورة أوّليّة فسيكون بالإمكان استنتاج توقّعات فضفاضة عمّا ينتظر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الشتاء المقبل – إذا استمرّت هذه الظاهرة حتى ذلك الحين.

 
 
 

(ظاهرة الّنينيا، مبيّنة باللون الأزرق - نوا)

 

في إجابتها عن سؤال "النهار العربيّ"، تشير الدكتورة فرنسيس، الخبيرة الدوليّة في علوم الغلاف الجوّيّ ورئيسة مختبر العلوم البيئيّة والجيوفيزيائيّة في جامعة خليفة، إلى أنّ "النّينيا تجلب عادةً ظروفاً أكثر برودة ورطوبة إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، الأمر الذي قد يُنتج "زيادة في تساقط الأمطار، ما قد يفيد الزراعة لكنّه قد يؤدّي أيضاً إلى فيضانات ومخاطر أخرى مرتبطة بالطقس". وتضيف أنّ النّينيا "يمكن أن تؤثّر على أنماط الحرارة، مع إمكانيّة أن تتسبّب بدرجات حرارة أقلّ في بعض المناطق".

 

وختمت: "مع ذلك، إنّ التّأثير الدقيق يمكن أن يختلف بالاعتماد على عوامل إقليميّة وقوّة ظاهرة النّينيا".