قبل أكثر من 100 عام، غيّر علماء جامعة مانشستر وجه العالم عندما اكتشفوا النواة في الذرات، حينما قادت أبحاث عالم نوبل إرنست رذرفورد إلى اكتشاف مكونات الذرة. وعلى النهج نفسه يعيد باحثو الجامعة التاريخ مجدداً، لكن هذه المرة في مجال حواسيب خارقة غير تقليدية تستند إلى الفيزياء الكمومية.
وتذكيراً، يطلق المصطلح الأخير على نوع من الفيزياء يتبع قوانين غير تقليدية إلى حد أنها تبدو غير منطقية وساحرة تماماً. ومثلاً، يفيد قانون التشابك الكمومي إلى إمكانية الربط بين ذرات بطريقة تجعلها تتحرك في اللحظة نفسها مهما بعدت المسافات بينها. وإذا صنعت كوابل انترنت تستند إلى التشابك الكمومي يصبح الزمن المطلوب لنقل بيانات من أول الأرض إلى آخرها، هو... صفر!
وعبر الطريقة الرائدة نفسها التي صاغها عام 1907 إرنست رذرفورد، مؤسس الفيزياء النووية، أنتج العلماء في جامعة مانشستر بالتعاون مع جامعة ملبورن في أستراليا، شكلاً محسناً فائق النقاء من السيليكون Super Pure Silicon قد يسمح ببناء أجهزة كومبيوتر كمومية عالية الأداء، لأنها تستند إلى الفيزياء الكمومية.
والحوسبة الكمومية هي مجال متعدد التخصصات، يشمل جوانب علوم الكمبيوتر، والفيزياء، والرياضيات التي تستخدم قوانين الفيزياء الكمومية الكم بهدف حل المشكلات المعقدة بسرعة أكبر من أجهزة الكمبيوتر التقليدية. ويشمل هذا المجال بحوثاً حول الأجهزة وتطوير التطبيقات. وبإمكان أجهزة الكمبيوتر الكمومية حل أنواع معينة من المشكلات بسرعة أكبر من أجهزة الكمبيوتر التقليدية.
قفزة للأمام
يمكن لنتائج الدراسة التي نُشرت قبل أيّام في مجلة "كوميونيكيشنز ماتيريالز - نيتشر"، تحديد مستقبل الحوسبة الكمومية، وإعطاؤه دفعة إلى الأمام، وفي هذا الصدد يقول ريتشارد كاري، أستاذ المواد الإلكترونية المتقدمة في جامعة مانشستر: "ما تمكنا من القيام به هو أشبه بوضع حجر أساس بفعالية لبناء كمبيوتر كمومي يستند إلى السيليكون الفائق النقاء".
وفي بيان صحافي، يصف كاري هذه الخطوة بأنها حاسمة لجعل الحوسبة الكمومية مجدية؛ إذ إن التقنية الثورية يمكن أن تعطينا القدرة على معالجة البيانات على نطاق واسع، حيث سنكون قادرين على إيجاد حلول للقضايا المعقدة تشمل معالجة تأثير تغير المناخ، ومعالجة تحديات الرعاية الصحية.
ويضيف أن "من اللافت أن يتزامن هذا الإنجاز مع الذكرى السنوية المئتين لجامعة مانشستر، التي كانت دائماً في طليعة الابتكار العلمي طوال هذا الوقت، بما في ذلك اكتشاف رذرفورد "تقسيم الذرة" في عام 1917، ثم في عام 1948 تقديم أول عرض واقعي على الإطلاق للحوسبة الإلكترونية المخزنة للبرامج، والآن مع هذه الخطوة ثمة قفزة جديدة نحو الحوسبة الكمومية".
ريتشارد كاري، أستاذ المواد الإلكترونية المتقدمة في جامعة مانشستر
تحديات
يتمثل اختراق جامعة مانشستر في التوصل إلى استخدام السيليكون الفائق النقاء في إرساء الأساس لتوليد الـ"كيوبت" Qubit، وهي اللبنات الأساسية للحوسبة الكمومية. وتشبه "كيوبت" في أجهزة الكمبيوتر الكمومية وحدات الـ"بت" bit في أجهزة الكمبيوتر التقليدية. وعند معرفة الفارق بين "الكيوبتات" ووحدات "البت" التقليدية، يمكن إدراك حجم الاختراق.
في الحوسبة التقليدية، تعد "البت" إشارة إلكترونية، إما تكون قيد التشغيل، وإما خارج التشغيل. وتالياً يمكن أن تبلغ قيمة الوحدة التقليدية واحداً (عند التشغيل)، أو صفراً (عند إيقاف التشغيل). ولكن، نظراً إلى أن وحدة "البت" الكمومية (الكيوبتات) تعتمد على قوانين ميكانيكا الكم، فإنها تتمتع بخاصية التراكب التي تتيح لها إمكانية معالجة ملايين العمليات بالتزامن، بينما تقتصر أجهزة الكمبيوتر التقليدية على معالجة العمليات بالتسلسل.
لكن كان ثمّة تحديات دائماً أمام تطوير أجهزة الكمبيوتر الكمومية، أحدها يتمثل في أن الـ"كيوبتات" حساسة للغاية، وتتطلب بيئة مستقرة للحفاظ على المعلومات التي تحتفظ بها، حتى التغيرات الصغيرة في بيئتها، بما في ذلك تقلبات درجة الحرارة، يمكن أن تسبب أخطاءً في الكمبيوتر.
وثمة مشكلة أخرى تتمثل في حجمها، سواء المادي، أو قوتها المعالجة. ويعتقد العلماء أن الكمبيوتر الكمومي يحتاج إلى حوالي مليون "بت كيوبت" للعمل بكفاءة، وهي قدرات غير ممكنة لأي جهاز كمبيوتر تقليدي، ما يشكل تحدياً تقنياً لتصنيع "الكيوبتات" بحجم صغير، وقابل للتطوير.
رافي أشاريا، باحث الدكتوراه المشارك في المشروع يختبر شرائح السيليكون
السر في السيليكون
السيليكون هو المادة الأساسية في الحوسبة التقليدية؛ بسبب خصائص أشباه الموصلات، ويعتقد الباحثون أن الشكل الفائق النقاء من تلك المادة قد يشكل الحل لصنع أجهزة الكمبيوتر الكمومية. أنفق العلماء السنوات الستين الماضية في تعلم كيفية هندسة السيليكون لجعله يعمل بأفضل قدرات لديه، ولكن في الحوسبة الكمومية كان ثمّة تحديات واجهت عملية استخدام السيليكون.
يتوفر السيليكون الطبيعي في مادة تضم ثلاثة أنواع من ذراته لكل منها كتلة مختلفة (لذا، تسمّى النظائر): السيليكون 28 و29 و30. ومع ذلك، فإن السيليكون 29 الذي يمثل حوالي 5 بالمئة من كتلة السيليكون، يسبب تأثير "التخبط النووي"، ما يتسبب في فقدان "كيوبت" للمعلومات.
في اختراق جامعة مانشستر، توصل العلماء إلى طريقة في هندسة السيليكون لتنقيته من شوائب ذرات السيليكون من نوعي 29 و30، وإنتاج مادة السيليكون 28 الفائق النقاء. وبالتالي، أصبح بمقدور العلماء تصنيع مليون "كيوبت" بحجم رأس الدبوس، ما يجعل السيليكون 28 المادة المثالية لصنع أجهزة الكمبيوتر الكمومية على نطاق واسع، وبدقة عالية.
رافي أشاريا، باحث الدكتوراه المشارك في المشروع يوضح أن الميزة الكبيرة للحوسبة الكمومية السيليكونية تكمن في أنها تتيح التعامل مع "كيوبتات" في حواسيب كمومية تستند صناعتها إلى السيليكون الفائق النقاء. ويجري ذلك من طريق استخدام التقنيات المستخدمة نفسها لتصنيع الرقائق الإلكترونية حالياً داخل جهاز كمبيوتر تقليدي يتكون من مليارات الترانزستورات.
ويلفت أشاريا إلى أن قدرة السيليكون في التعامل مع "كيوبتات" كانت محدودة جزئياً في ما مضى، لكن الاختراق المتمثل في انتاج السيليكون العالي النقاء يعد بحلّ هذه المشكلة.
يرسم الاختراق الجديد طريقاً واضحة المعالم نحو أجهزة كمومية تتمتع بأداء وقدرات استثنائية. وكذلك يعد الاكتشاف بتغييرات ثورية في مجالات تشمل الذكاء الاصطناعي، والبيانات والاتصالات الآمنة، وتصميم اللقاحات والأدوية، واستخدام الطاقة، والخدمات اللوجستية، والتصنيع وغيرها.