تمثّل المجرّات مصدراً أساسيّاً من مصادر جذب اهتمام علماء الفلك، لا بسبب تركيبتها الخاصّة وحسب، لكن الأهمّ، لأنّها قد تكشف الكثير من ألغاز الكون، وخصوصاً في جانبه غير المرئيّ. ما هي أبرز تلك الألغاز؟
المادّة المظلمة
ابتكر العالِم السويسريّ في "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" فريتز زويكي المصطلح لوصف المادّة غير المرئيّة التي تلقي الضوء على تباين في عنقود "كوما" المجرّيّ حيث كانت المجرّات تتحرّك بسرعة أكبر من المفترض، لكنّ تلك السرعة لم تمنعها من التمزّق.
وبعد نحو أربعة عقود، لاحظت عالِمة الفلك في "مؤسّسة كارنيغي" فيرا روبين أنّه توجّب على النّجوم الموجودة في أطراف المجرّات أن تتناثر بعيداً من موطنها بسبب سرعة دورانها. خلصت روبين إلى وجود مادّة لا تصدر الضوء وتعمل على تثبيت هذه النجوم في مكانها.
#خاص
— Annahar Al Arabi (@AnnaharAr) March 14, 2024
نظريّة مثيرة للجدل... هل تصبح المادّة المظلمة من الماضي؟ https://t.co/SlFPg8o7RW
اليوم، تقدّر وكالة "ناسا" احتواء الكون على مادّة مظلمة تفوق المادّة العاديّة، أي تلك التي تتفاعل مع الضوء، بخمس مرّات. وتشير إلى أنّ بنية الكون قد ترتكز على شبكة هائلة من خيوط المادّة المظلمة التي تمتدّ بين المجرّات وتنمو بمرور الوقت. والمناطق التي تتقاطع فيها تركّزات هذه الخيوط تحمل أيضاً هياكل مرئيّة ضخمة مثل عناقيد المجرّات.
إذا عدنا مثلاً إلى الصورة الرئيسيّة، المنطقة الداخليّة من عنقود المجرّات أبيل 1689 التي التقطها تلسكوب هابل الفضائيّ، تمثّل تلك الصورة مجموعة هائلة من المجرّات التي تقع على بعد 2.2 مليار سنة ضوئيّة. تبيّن الأعداد الكبيرة من الأقواس الضوء الآتي من المجرّات الخلفيّة وهو ضوء متشوّه بفعل مجال الجاذبيّة الأماميّ للعنقود. لا يمكن تصوير المادّة المظلمة، لكنّ توزيعها يظهر في التراكب الأزرق على ما توضحه الوكالة نفسها.
ليست هذه النظريّة بلا ثغرات لكنّها الأكثر تكاملاً حتى اليوم لتفسير تفاعل المجرّات وعناقيد المجرّات مع السرعات العالية. من بين المهتمّين بدراسة المجرّات عالِمة الكون الرائدة ألكسندرا أمون التي تعتقد أنّ العلماء باتوا على مشارف حقبة جديدة من علم الكون بفضل هذه الدراسات بالتحديد.
"مسح الطاقة المظلمة"
عملت أمون على دراسة بيانات جمعها مشروع "مسح الطاقة المظلمة" الذي يعدّ جهداً تعاونياً دوليّاً لرسم خريطة مئات الملايين من المجرّات للعثور على أنماط في الكون واختبار النموذج المعياريّ (أو القياسيّ). تشارك أمون في قيادة الفريق الذي يبحث عن هذه الأنماط باستخدام عدسة الجاذبيّة الضعيفة على ما كتبته في مجلة "ساينس فوكوس" التابعة لشبكة "بي بي سي".
The Dark Universe: Why we're about to solve the biggest mystery in science https://t.co/uGiOTQVzZX
— BBC Science Focus Magazine (@sciencefocus) May 12, 2024
تشير أمون إلى أنّ فريقها في مشروع "مسح الطاقة المظلمة" يجمع ضوء المجرّات بعد أن يكون قد سافر لمليارات السنين عبر الكون. وتوضح أنّ أيّ بنية ضخمة، مرئيّة كانت أم غير مرئيّة، ستشوّه النسيج الزمكانيّ للكون. يغيّر هذا الالتواء مسار ضوء المجرّة، وبنتيجة ذلك، تبدو صورة المجرة مشوّهة قليلاً، أو "ملتفّة" (lensed) في إشارة إلى التفاف الضوء حول بنية المجرّة.
ينتقل ضوء المجرّات القريبة من بعضها عبر هياكل مماثلة في شبكة المادّة المظلمة. وتكون صورها منحرفة في نفس الاتّجاه بسبب الجاذبيّة. وبافتراض أنّ تلك المجرّات موجَّهة بشكل عشوائيّ، تشير التشوّهات القويّة في الصور إلى منطقة مليئة بكثافة بالمادّة المظلمة. والعكس صحيح.
قصّة نجاح... وعقبات
بالرّغم من أنّها تعتبر النموذج المعياريّ أو القياسيّ قصّة نجاح لا يمكن إنكارها، بما أنّه يصف أصل ومحتوى وتطوّر وتاريخ الكون، تقول أمون إنّ الفريق يأمل ألا تتّفق نتائجه مع تنبّؤات النموذج المعياريّ، لأنّ ذلك قد يكون دليلاً إلى الاختراق التالي. (من بين ثغرات النموذج المعياريّ إخفاقه حتى اللحظة في الجمع بين الجاذبيّة من جهة والقوى النوويّة الضعيفة والقويّة والكهرومغناطيسيّة من جهة أخرى).
لن تكون مهمّة أمون وفريقها سهلة كما تعترف. فالتشوّهات الناجمة عن عدسة الجاذبيّة الضعيفة هي أصغر بكثير من التشوّهات التي تنشأ عندما يمرّ ضوء المجرّة عبر الغلاف الجوّيّ للأرض.
ولهذا السبب يقع تلسكوب فيكتور إم بلانكو التابع لـ"مسح الطاقة المظلمة" على قمّة جبل سيرو تولولو في تشيلي والتي ترتفع أكثر من 2200 متر عن سطح البحر حيث يكون أمام الضوء الآتي من المجرّات البعيدة غلاف جوّيّ أقلّ ليخترقه قبل أن يصل إلى التلسكوب. ويتعيّن أيضاً أخذ عوائق أخرى بالاعتبار مثل نمذجة هذه التأثيرات بعناية، وعيوب محتملة في التلسكوب والكاشف، وتعقيدات بنى المجرّات. يضاف إلى ذلك التحدّي التكنولوجيّ الهائل في رصد تأثير "عدسة الجاذبيّة الضعيفة" حيث يمثّل التشوّه الناجم عن المادّة المظلمة أقل من 1 في المئة من التغيير في الشكل المرصود، أي أصغر من خصلة شعر ملفوفة حول كرة مضرب.
وبالرغم من البيانات الهائلة (آلاف التيرابايتات) التي جمعها الفريق على مدى سنوات لأكثر من 100 مليون مجرّة، يبقى أنّ هناك خوفاً من التحيّزات، لأنّ البشر غير معصومين عن الخطأ بحسب أمون. لهذا السبب، ستخاض التجارب بشكل "أعمى" كما عبر فرق مستقلّة عدّة.
تلميحات أوّليّة... واعدة
وجد "مسح الطاقة المظلمة"، مع فرق أخرى، أنّ العدسات الضعيفة تتنبّأ بكون أقلّ تكتّلاً بقليل من توقّعات النموذج السائد لعلم الكون. هذا التلميح إلى التناقض مع النموذج المعياريّ ليس الوحيد كما أوضحت، إذ تشير أنواع أخرى من القياسات إلى اختلافات أيضاً، مثل معدّل توسّع الكون.
ماذا يمكن أن تعني هذه التلميحات؟ إما تبشّر بدعوة إلى فيزياء جديدة، أو تشير إلى تحدّيات في التحليل لمّا يتمّ حلّها بعد. مع المزيد من البيانات، يمكن فحص النتائج بإحصاءات أفضل. بحسب العالِمة، من المقنع الاعتقاد بأنّ الوقت قد حان للحظة تاريخيّة جديدة.
وتكتب: "من المستحيل أن نتخيّل كيف سيبدو فهمنا للكون خلال عقد من الزمن... أملي الوحيد هو أن تنقلب وجهات نظرنا رأساً على عقب مرّة أخرى لنكشف أنّ كوننا أكثر جمالاً مما كنّا نتخيّل، وليطلق العنان لمزيد من الأسئلة التي تجعلنا نتطلع إلى الأعلى".