خلال الأيّام العشرة الماضية، احتلّ أرخبيل صغير من الجزر في المحيط الهادئ حيّزاً كبيراً من الأنباء العالميّة. في 13 أيّار (مايو)، اندلعت اضطرابات في كاليدونيا الجديدة التي يقطنها نحو 300 ألف نسمة بسبب خطط فرنسيّة لإدخال تعديلات انتخابيّة تمنح نحو 25 ألف شخص ممّن لا ينتمون للسكّان الأصليّين (الكاناك) حقّ التصويت.
حتى يوم الاثنين، تسبّبت أعمال العنف بمقتل 6 أشخاص من بينهم شرطيّان وجرح مئات آخرين. قال أحد المحتجّين لوكالة "فرانس برس" إنّ الإصلاحات المقترحة "تعني القضاء على شعب الكاناك". يمثّل الأخير نحو 44 في المئة من إجمالي السكّان، ويتركّز في الجزء الجنوبيّ من أكبر جزر الأرخبيل، بينما تبلغ نسبة "الكالدوش" (أوروبّيّون معظمهم فرنسيّون) 34 في المئة. وينقسم الباقون بين بولينيزيّين وسكّان من جنوب شرق آسيا.
تبعد كاليدونيا الجديدة عن شرق أستراليا نحو 1200 كيلومتر وتبلغ مساحتها 18575 كيلومتراً مربّعاً. خضع أرخبيل الجزر للحكم الفرنسيّ منذ أواسط القرن التاسع عشر وتمّ تنظيم 3 استفتاءات حديثة رفضت الاستقلال. لكنّ التيّار المناصر للاستقلال رفض الاستفتاء الأخير (2021) باعتباره غير شرعيّ بعدما قاطعه السكّان الأصليّون. فرضت فرنسا حال الطوارئ الذي سيستمرّ إلى أواخر هذا الشهر وربّما أبعد ونشرت نحو ألف شرطيّ.
ثروة الأرخبيل
ميزة كاليدونيا الجديدة، أو سوء حظّها بالنسبة إلى المؤمنين بنظريّة "لعنة الموارد"، أنّها تضمّ ما بين 20 إلى 30 في المئة من موارد النّيكل حول العالم. يدخل هذا المعدن في صناعة بطّاريات الليثيوم أيون (أو أيونات الليثيوم) التي تمثّل مكوّناً أساسيّاً في صناعة السيّارات الكهربائيّة. تشكّل صناعة النّيكل 90 في المئة من صادرات الأرخبيل وتوظّف نحو ربع القوّة البشريّة العاملة هناك بحسب وكالة "أسوشيتد برس". ونقلت الوكالة عن الباحث في جامعة موناش الأستراليّة نيكولاس فيرنز قوله إنّ ثمّة إشارة إلى وجود حافز لدى فرنسا لإبقاء سيطرتها على كاليدونيا الجديدة وهو "آمالها بضمان احتياطات النيكل الكبيرة هناك، ربّما مع مراقبة لإنتاج المركبات الكهربائيّة هناك".
(من أضرار الاضطرابات - أ ف ب)
فرادة النيكل هي أنّه يمنح بطّاريات الليثيوم أيون كثافة أعلى من الطاقة وكذلك إمكانات تخزين أعلى. تعني هاتان المزيّتان أنّ السيّارات الكهربائيّة ستتمكّن من اجتياز كيلومترات أكثر مع كلّ عمليّة شحن منفردة. علاوة على ذلك، يوفّر النيكل هذه الخدمة بكلفة أقلّ. وثمّة مكاسب إيجابيّة أخرى ناجمة عن استخدام هذا المعدن. فالبطّاريات التي تعتمد عليه تتطلّب مساحة أقلّ وذات وزن أخفّ. بعبارة أخرى، يصعب الرهان على انتشار واسع النطاق للسيّارات والمركبات الكهربائيّة من دون النيكل.
نوع النيكل المطلوب لكلتا الصناعتين مختلف إلى حدّ معيّن. صناعة البطّاريّات تتطلّب نوعاً أنقى من المعدن "فئة 1" (أكثر من 99.8 في المئة) وهو يُستخرج بشكل أساسيّ من روسيا وكندا والصين وأستراليا، بينما تتطلّب صناعة الفولاذ المقاوم للصدأ نوعاً أقلّ نقاء "فئة 2" كالذي تنتجه إندونيسيا والفلبين. كاليدونيا الجديدة من المناطق المصدّرة للفئة الأولى من النيكل، وهي فئة تتطلّب معالجة مكثّفة.
تقلّبات السوق
تخضع سوق النيكل للتقلّبات بسبب أوضاع سياسيّة واقتصاديّة مختلفة. فمنذ بداية 2023 وحتى كانون الثاني (يناير) تقريباً، انخفضت الأسعار بـ 47 في المئة، ممّا دفع المعدن إلى تسجيل أسوأ نتيجة له في بورصة لندن للمعادن السنة الماضية. سبب ذلك هو بدء أكبر منتج للنيكل حول العالم، إندونيسيا، بزيادة الإمدادات إلى جانب انخفاض مبيعات أسعار السيّارات الكهربائيّة.
تسبّب هذان التطوّران بزيادة كبيرة في المعروض. في الأشهر التسعة الأولى من سنة 2023، بلغ فائض النيكل 155 ألف طنّ مقابل منذ نحو 60 ألف للفترة نفسها من 2022. دفع هذا الفائض إحدى الشركات السويسريّة إلى إغلاق أعمالها في كاليدونيا الجديدة بسبب انخفاض المردود. لكنّ زيادة المعروض قد تنقلب سريعاً رأساً على عقب إذا ازدادت عمليّات الإغلاق بحسب ما قاله لـ "فورين بوليسي" المحلّل الرئيسيّ للنيكل والكوبالت في شركة "بنشمارك مينرال إنتليجنس" ويليام تالبوت.
(متظاهر مؤيد للاستقلال من جبهة الكاناك والتحرير الوطني الاشتراكي - أ ف ب)
وفي سنة 2023، توقّعت إحدى الإحصائيّات أن يزيد الطلب على النيكل ستة أمثال بحلول سنة 2030 بفعل نموّ سوق السيّارات الكهربائيّة. بالتالي، قد يكون انخفاض سعر المعدن السنة الماضية مجرّد استثناء للقاعدة التي من المرجّح أن تحكم السوق خلال ما تبقّى من هذا العقد.
"عقيدة النيكل" تغضب ماكرون
خلال ذروة الاضطرابات، اعترفت فرنسا بأنّها فقدت السيطرة على أجزاء من كاليدونيا الجديدة. وكانت السلطات الفرنسيّة قد حذّرت سنة 2023 من إمكانيّة إغلاق المنشآت الأساسيّة الثلاث لمعالجة النيكل عمّا قريب فقدّمت دعماً بقيمة 200 مليون يورو للصناعة؛ انتقد الحراك المؤيّد للاستقلال "ميثاق النيكل" باعتباره "ميثاقاً استعماريّاً" يمنح باريس القوة على حساب السكان الأصليّين.
يرى شعب "الكاناك" أنّ السيطرة على استخراج النيكل هي الطريق المؤدّي إلى الاستقلال ضمن ما يُعرف باسم "عقيدة النيكل" التي تسعى إلى وقف تصدير المعدن الخام لمصلحة تعزيز الصادرات المعالَجة ممّا يؤمّن استدامة اقتصاديّة أطول للسكّان المحلّيّين. ساهمت القيود على الصادرات في تكبيد الشركات الفرنسيّة خسائر مادّيّة الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون إلى القول إنّه لا يريد تحويل أموال دافعي الضرائب إلى قطاعات غير منتجة.
قيل كلام كثير عن أنّ المستقبل الأخضر يساعد الدول على إيجاد قواسم مشتركة للتقارب ومواجهة أزمة التغيّر المناخيّ. مع وقوع كاليدونيا الجديدة عند تقاطعات بيئيّة وإثنيّة وجيوسياسيّة حسّاسة – بخاصّة مع النفوذ الصينيّ في الشمال – ومع اتّهام فرنسا لأذربيجان بالتدخّل في شؤون الأرخبيل، ينبغي التفاؤل بحذر عند الحديث عن هذا المستقبل الواعد؛ أو على الأقلّ عند سلوك الطريق المؤدّي إليه.