تشتهر الغربان إلى حدّ بعيد بذكائها، حتى أنّها تملك أدمغة كبيرة جدّاً بالنسبة إلى حجمها. تعيد اليوم دراسة حديثة نشرتها مجلّة "ساينس" منذ أيّام تأكيد هذا الاتّجاه.
كتبت لورين ليفر في موقع "پوپولار ساينس" أنّه وقبل أن يتعلّموا إتقان العدّ الرمزيّ حيث يشير الرقم "واحد" إلى شيء مفرد والرقم "اثنان" إلى ضعف ذلك، يمرّ الأطفال الصغار بمرحلة تطوّر من الحساب اللفظيّ. في هذه المرحلة، عندما يُسأل طفل صغير عن عدد التفّاحات في مجموعة مكوّنة من ثلاث تفاحات، قد يقول "واحدة، واحدة، واحدة" أو "واحدة، اثنتان، ثلاثة" أو "تفاحة، تفاحة، تفاحة" في شكل عدّ أوّلي. إنّهم يفهمون أنّ هناك ثلاث تفاحات، لكن ليس لديهم القدرة بعد على التعبير عن هذا الرقم بالشكل المجرّد لـ "ثلاثة" وحده.
انطلاقاً من هذه المعرفة، قرّرت ديانا لياو، عالمة الأحياء العصبية وباحثة ما بعد دكتوراه في جامعة توبينغن في ألمانيا، أن تطرح السؤال البديهيّ: هل تستطيع الغربان أن تفعل ذلك أيضاً؟
Crows can count similarly to toddlers, according to new study https://t.co/FQBGA1MVq4 @Sovon @natuurstudie #wildlife #vogels #birds
— Frits van Hout (@FritsvanHout) May 26, 2024
يمكنها ذلك، بحسب دراسة هي الأولى من نوعها نشرتها مجلّة "ساينس" في 23 أيار (مايو). يمكن لغربان الجيف (أو زاغ الجِيَف) التحكّم بنداءاتها ومطابقة عدد تلك النداءات مع إشارة، وهو شكل من أشكال العدّ الأوليّ، بحسب البحث الجديد. تضيف الدراسة معرفة جديدة إلى القائمة الطويلة من القدرات المعرفيّة التي تمتلكها الغرابيّات (عائلة طيور تضمّ الغربان والعقعق والقيق).
في حديث إلى موقع "پوپولار ساينس"، تقول جيسيكا كانتلون، أستاذة علم النفس في "جامعة كارنيغي ميلون" ومتخصّصة في التحليل الكمّيّ إنّ الدراسة "متقنة حقاً". لم تشارك كانتلون في البحث. عند البشر، يعدّ الاتّصال بين الجهاز الصوتيّ وعقلنا الرياضيّ جزءاً أساسيّاً من فهم الأرقام لدينا. وتشرح قائلة: "عندما تبدأون باستخدام الألفاظ لتمثيل الأشياء في العالم، يغيّر (ذلك) طريقة تفكيركم نوعاً ما... وهذه هي الطريقة التي يظهر بها العدّ عند البشر على مدار التطوّر وعلى مدار الزمن التطوريّ".
أبحاث سابقة
أظهرت أبحاث سابقة تضمّنت عادة النقرات أو الضغط على أزرار أو اختيار الطعام أو نقرات على الشاشة أو حركات الرأس أنّ الغربان والشمبانزي والقردة والببغاوات والجرذان والنحل والدجاج وحيوانات أخرى تتمتّع بمستوى معيّن من التفكير الكمّيّ. من ضمن ذلك التمييز بين كمّيّات مختلفة من الأشياء وإجراء عمليات حسابيّة أساسيّة، وحتى بشكل نادر تصور الصفر. لكنّ مستوى التحكّم الصوتيّ لدى البشر فريد من نوعه.
بحسب لياو، وعلى النقيض من قدرات البشر، يعتقد العلماء أنّ معظم نداءات الحيوانات غير إراديّة وغريزيّة، أي مبرمجة لدى الولادة ومستنبطة من إشارات بيئيّة خارجيّة. على سبيل المثال، أظهرت أبحاث على طيور القرقف أنّ الطيور ستضيف المزيد من مقاطع "دي" إلى نداءات الإنذار الخاصّة بها، في ظلّ وجود حيوانات مفترسة أكبر حجماً. لكنّ هذا الاتجاه لا يشير بالضرورة إلى أنّ الطيور المغرّدة تقيس حجم المفترس حرفيّاً من خلال تغريداتها. من الممكن أن يكون عدد الـ "دي" متوافقاً مع مقدار الإثارة الناتجة عن وجود حيوان مفترس، وتكون التهديدات الأكبر أكثر إثارة للقلق. أرادت لياو البحث في هذه الظاهرة في بيئة أكثر خضوعاً للتحكّم، حيث من شأن تجهيزات المختبر الاصطناعيّ أن تمكّنها من القضاء على دور الخوف والإثارة الغريزيّين.
مسار الدراسة ونتيجتها
من أجل إثبات قدرات الغرابيّات، قامت لياو وزملاؤها بتدريب ثلاثة غربان جيفيّة على ربط أرقام عربيّة ملوّنة (1، 2، 3، 4) وإشارات سمعيّة محايدة (أي أصوات لا علاقة لها بأيّ تهديد طبيعيّ أو فريسة) بسلسلة مرنة من الألفاظ المقابلة. تقول لياو إنّ العمليّة استغرقت أكثر من عام وتمّت في الغالب من خلال التجربة والخطأ. قدّم الباحثون لكلّ غراب رقماً على الشاشة أو صوتاً مسجّلاً ثم كافأوا الطائر بالطعام إذا ومتى أصدر العدد المطابق من النداءات.
بمجرّد اكتمال التدريب، تمّ اختبار الغربان في جلسات متكررة مدّتها ساعة أو ساعتين. يبدأ كل طائر متمركز أمام الشاشة التجارب عن طريق نقر الهدف. بعد ذلك، سيظهر رقم على الشاشة ردّاً على ذلك، أو سيتم تشغيل إشارة صوتيّة. ستردّ الغربان ثم تنقر على "مفتاح الإدخال" الذي تظهره الشاشة للإشارة إلى نهاية استجابتها. إذا كان عدد النداءات يتوافق بشكل صحيح مع الرقم، فستحصل الغربان على وجبتها.
Crows can 'count' similarly to toddlers, according to new study | Popular Science https://t.co/OXCgqocbgs
— Egan J Chernoff (@MatthewMaddux) May 25, 2024
خلال 20 جلسة لكلّ منها، أظهرت الغربان الثلاثة أنّها تستطيع ترتيب أصواتها مع الإشارات بمعدّل أعلى بكثير من الصدفة. في معظم الأحيان، كانت الغربان على حقّ إذ أظهرت دقة بنسبة 100 بالمئة في الاستجابة للرقم واحد وأكثر من 60 بالمئة في الاستجابة للرقم اثنين، وأكثر من 50 بالمئة في الاستجابة للرقم ثلاثة، ونحو 40 بالمئة في الاستجابة للرقم أربعة. باستخدام أداة تحليل حاسوبيّة، وجد الباحثون أيضاً أنّ الغربان تخطّط لاستجابتها ورقم النداء منذ النعيق الأول. أخيراً، قام الباحثون بتقييم المسارات التي أخطأت فيها الغربان، ووجدوا أنّ الأخطاء تنقسم إلى فئتين: التأتأة (حيث تكرّر الطيور نداءها) والتخطّي (حيث ينسى الطائر أحد النداءات)، وهذا يشير إلى أنّه عندما تخطئ الطيور، هي تبدأ عموماً بالخطة الصحيحة في ذهنها قبل أن تفقد في بعض الأحيان مسارها لاحقاً.
في المجمل، تقترح تجاربهم أنّ لدى غربان الجيف قدرة متقدمة على إصدار أو حجب التغريد استجابةً لإشارات عشوائيّة، حيث يتمّ عدّ الأصوات بصوت عالٍ كما يفعل الأطفال الصغار.
نتيجة نهائيّة؟
ثمّة بعض القيود على الدراسة. تقول لياو إنّ الباحثين لم يقيسوا الإثارة بشكل مباشر، لذلك من المحتمل أن يبقى ذلك عاملاً في استجابة الطيور. ومن المحتمل أنّ الطيور كانت تتتبّع في استجاباتها مدّة النداء، لا المقاطع الخفيّة، كما تقول كانتلون. إذا كان الأمر كذلك، فقد لا يكون لديها في الواقع القدرة على فهم الارتباطات الفرديّة بين النداء وعدد الأشياء، وقد يكون الأمر أنّها تربط فترة زمنيّة مع التحفيز. لذلك، ستكون هناك حاجة إلى مزيد من البحث لمعرفة ذلك على وجه اليقين.
وعلى أيّ حال، تخطّط لياو لإجراء تجارب إضافيّة من أجل استكشاف كيفيّة استخدام الغربان لأرقام النداء في البرّيّة، وتأمل أيضاً فحص أنظمة الدماغ الأساسيّة التي تدعم القدرة المكتشفة حديثاً.