لقد رافق حلم صنع كومبيوتر يحاكي الدماغ البشري، وبالطبع كخطوة للتفوّق عليه، خيال مبتكري علوم المعلوماتية والحوسبة والروبوتات، خصوصاً منذ ظهور الذكاء الاصطناعي الحديث على يد العالِم آلان تورينغ في منتصف القرن العشرين.
وبالنظر إلى القدرات الهائلة التي تملكها الآلات الذكية، رافق ذلك الحلم دوماً خشية من تفوقه بلمح البصر على عقول البشر، ما يرشحه لبسط سيطرته عليهم. وقد حضر جزء من ذلك الأمر في النقاشات الشائكة التي رافقت ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي شكّل خطوة اخرى في مسار تطور الكومبيوتر.
وأخيراً، بشَّر باحثون من مركز الهندسة العصبية في "المعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا" Korean Institute of Science & Technology بأنهم أنجزوا قفزة نوعية في مسار صنع كومبيوتر يُحاكي الدماغ البشري.
وفي دراسة نشروها في مواقع إعلامية علمية متخصصة، بيّن علماء ذلك المركز، أنهم ركّبوا نظام أجهزة متكاملاً، يتكوّن بصورة أساسية من "شبكات عصبية اصطناعية" Artificial Neural Networks باستخدام مادة لها تركيب مرن ومتشابك، هي نيتريد البورون السداسي، تصلح لبناء "خلايا عصبية اصطناعية"، التي يمكن ربطها وتشبيكها مع بعضها البعض، لصنع هياكل كبيرة من الشبكات العصبية الاصطناعية.
الخيال المجازي للشبكات العصبية الاصطناعية
استدراكاً، يستخدم المشتغلون في صناعة الحواسيب وأنظمتها وبرامجها، مصطلحات "شبكات عصبية اصطناعية" و"خلايا عصبية اصطناعية" بطريقة مجازية. إذ يُقصَد بذلك الإشارة إلى نوع من التشابه المُتخيّل مع أعصاب الدماغ وتراكيبه، لأن الأخيرة هي مصدر الإلهام الفعلي لهم. وبالتالي، يجدر ألّا تؤخذ تلك المصطلحات والتعابير في صناعة الآلات الذكية، بصورة حرفية.
وبالعودة إلى الإنجاز الكوري، يشرح الباحث والدكتور جون يونغ كواك، أحد مؤلفي الدراسة، "يمكن استخدام أنظمة الشبكات العصبية الاصطناعية في معالجة كميات هائلة من البيانات المستقاة من تطبيقات رقمية كفؤة تتناول الحياة الواقعية بكفاءة، على غرار تلك المستخدمة في المدن الذكية وأنظمة الرعاية الصحية وشبكات الاتصالات الخليوية المتطورة ومواقع التنبؤ بالطقس والمركبات الذاتية القيادة وغيرها".
معالجة المعلومات في الدماغ
بالنظر إلى أن الدماغ وتراكيبه يُعتبران النموذج المُلهِم لصناعة الشبكات العصبية الاصطناعية والتراكيب المستندة إليها، يجدر إعطاء لمحة عن كيفية عمل دماغ الإنسان.
وبداية، تُعتبر الخلايا العصبية مسؤولة عن إرسال الإشارات أو المعلومات من وإلى جميع أنحاء الجسم. وتتيح لنا إنجاز نشاطات فائقة التنوع كالتنفس والنوم ومشاهدة برامجنا التلفزيونية المفضّلة وغيرها.
ويعتمد بحاثة الحاسوب على أدوات تسمّى "ميمريستور" memristor لصنع الخلايا العصبية الاصطناعية وشبكاتها. ويتميز الـ"ميمريستور" بقدرته على التحكّم بتدفق التيار الكهربائي، مع تذكره كل التدفقات التي تمرّ عبره. وتبقى خريطة تلك التدفقات "محفورة" في ذاكرته، حتى حينما ينقطع مرور التيار الكهربائي. وبعبارة اخرى، ينهض "ميمريستور" بمهمات الذاكرة للتدفقات التي تمرّ عبر أدوات معالجة البيانات في الحاسوب.
وهنا يبرز دور أداة "آر رام" RRAM التي تعمل مباشرة مع "ميمريستور" وتتميز بقدرتها على الاحتفاظ بذاكرة كل ما يولّده الكومبيوتر من عمليات تتصل بمسارات الحوسبة فيه. وعلى غرار "ميمريستور"، لا تستهلك أدوات "آر رام" كميات كبيرة من الطاقة.
وتجدر الإشارة، إلى أن انخفاض مستوى استهلاك الطاقة يشكّل معلماً بارزاً في دماغ البشر، الذي لا يحتاج سوى 20 واط كي يتعامل مع مليار عملية حسابية في الثانية.
وتتضمن آليات محاكاة الحواسيب لعمل الدماغ البشري، وجود نقاط أو عُقَد، تتقاطع فيها التدفقات الإلكترونية المتصلة بعمليات التعامل مع البيانات، مع الاحتفاظ بذاكرة عنها، إضافة إلى غربلتها وتكثيفها. وبالتالي، تبدو تجمعات تلك العُقد في الشبكات العصبية الاصطناعية، شبيهة بعمل المساحات المتخصصة بأعمال محدّدة في الدماغ البشري، كتلك المختصة بترجمة ما يتدفق من العين إلى صور مُدركة ومفهومة.
لمحة عن الحوسبة العصبية
تملك الحوسبة العصبية Neural Computing، أي العمليات الحسابية التي تجري بالاستناد إلى الشبكات العصبية الاصطناعية، عدداً من التطبيقات التي ستتأثر مع التطورات المستمرة في تلك الشبكات.
ويُنتظر أن تؤدي الحوسبة العصبية دوراً كبيراً في الأنظمة المؤتمتة التي تتخذ قراراتها بنفسها على غرار السيارات التي يقودها الروبوت. ويفترض بتلك المركبات استشعار بيئتها والتعامل معها بصورة آمنة وكفؤة. وينطبق الوصف نفسه على أجهزة "إنترنت الأشياء"، أي تلك الأدوات الذكية المثبتة في الأشياء التي نستعملها يومياً على غرار كاميرات المراقبة وأجهزة التكييف في المنازل وغيرها.
وبديهي الإشارة إلى دور الحوسبة العصبية في تطوير الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في الآليات المنوط بها التعرف على الأنماط واتخاذ القرارات وغيرها.
وأخيراً، ذكر الدكتور جون يونغ كواك أيضاً، أن الإنجاز الكوري المشار إليه آنفاً، "سيساعد في تحسين مشكلات بيئية مثل انبعاثات الكربون، عن طريق تقليل استخدام الطاقة كثيراً بالمقارنة مع الأجهزة الذكية الحالية المعتمدة على السيليكون"، نظراً لاستناده إلى مادة نيتريد البورون السداسي، وفق ما ورد في مطلع المقال.