النهار

غْرامٌ منها يكلّف ألف تريليون دولار... ما هي المادّة المضادّة؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
كيف تُعلّمنا هذه المادّة على عدم الخجل ببُعدِنا عن الكمال؟
غْرامٌ منها يكلّف ألف تريليون دولار... ما هي المادّة المضادّة؟
صورة خارجيّة لمحطّة الفضاء الدوليّة. المادّة المضادّة نادرة جدّاً في كوننا (ناسا)
A+   A-

تمثّل المادّة المضادّة الأخ التوأم لجميع الجسيمات ما دون الذرّيّة التي تشكّل الكون وتختلف عنها بشكل أساسيّ في طبيعة الشحنة. على سبيل المثال، إنّ المادّة المضادّة للإلكترون ذي الشحنة السلبيّة تتمتّع بالكتلة نفسها إنّما بشحنة موجبة. واسم المادّة المضادّة للإلكترون هو "البوزيترون". بالمقابل، إنّ المادّة المضادّة للبروتون هي الـ "بروتون المضادّ" الذي يتمتّع بشحنة سلبيّة. وثمّة مادّة مضادّة للجسيمات التي تتكوّن منها البروتونات والنيوترونات، كما أنّ هناك بعض الجسيمات مثل الفوتونات والميزونات التي تمثّل المادّة المضادّة لنفسها.

 

ولّد الانفجار العظيم قبل نحو 13.8 مليار سنة الكمّيّة نفسها من المادّة والمادّة المضادّة. الكمّيّة نفسها... تقريباً. لو كان عدد المادّتين متساوياً تماماً لما كنّا نبحث عن ماهيّتيهما لأنّنا لم نكن لنوجد أساساً. فعندما تتصادم المادّة والمادّة المضادّة، تقومان بإبادة بعضهما البعض. يبقى أنّ رقم التباين في أعداد المادّتين، والذي سنعود إليه لاحقاً، مذهلٌ فعلاً. اليوم، وبعكس ما حدث في الزمن السحيق، تعدّ المادّة المضادّة نادرة وعابرة في الكون. ومثل المادّة العاديّة، تتسارع المادّة المضادّة استجابة لقوّة خارجيّة كما تسقط بفعل الجاذبيّة.

 

بدايات الاكتشاف

سنة 1928، كتب عالم الفيزياء البريطانيّ بول ديراك معادلة جمعت بين نظريّة الكمّ والنسبيّة الخاصّة لوصف سلوك إلكترون بشكل متناسق مع نظريّة النسبيّة لأينشتاين. وسمحت المعادلة التي أكسبت ديراك جائزة نوبل باستنتاج حالتين ممكنتين للإلكترون، واحدة بشحنة سلبيّة وأخرى بشحنة إيجابيّة. سنة 1932، اكتشف أستاذ شاب في "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" عمره 27 عاماً وجود "شيء ذي شحنة إيجابيّة، وبنفس كتلة الإلكترون".

 
 

كان كارل أندرسون يدرس جسيمات كونيّة في غرفة سحاب وواظب دراسته لنحو عام مطلقاً على هذه المادّة اسم "البوزيترون". سنة 1936، أصبح أندرسون ثاني أصغر عالِم ينال جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف. اللافت في حياة أندرسون أنّه طوّر صواريخ استُخدمت خلال الحرب العالميّة الثانية كما أنّه تلقى عرضاً لرئاسة مشروع لوس ألاموس للقنبلة النوويّة، قبْل جاي آر أوبنهايمر، لكنّه رفض ذلك لأسباب عائليّة. بالحديث عن الصواريخ والطاقة المدمّرة، كثيراً ما استحضِرت المادّة المضادّة في سياق البحث عن القوّة الدافعة أو القوّة المدمّرة.

 

ما هي إمكاناتها؟

نظريّاً، إنّ اعتماد الصواريخ على المادّة المضادّة كقوّة للدفع سيكون أفضل من جميع مصادر الطاقة الأخرى. بحسب دراسة منشورة على موقع وكالة "ناسا"، في مقابل كلّ وحدة مماثلة من الكتلة، ستكون طاقة المادّة المضادّة (بعد اصطدامها بالمادّة العاديّة) أكبر من طاقة الاندماج النوويّ بـ 300 مرّة، ومن طاقة الانشطار النوويّ بـ 1000 مرّة. أمّا بالنّسبة إلى الطاقة الناتجة عن الاشتعال الكيميائيّ التقليديّ، فستكون طاقة المادّة المضادّة أكبر بـ 10 مليارات مرّة.

 

يمكن الانتقال إلى عالم الأسلحة النوويّة لتكوين فكرة مماثلة عن قوّة المادّة المضادّة. استخدمت قنبلة "الرجل البدين" التي ألقيت على ناغازاكي سنة 1945 نحو 6.4 كيلوغرامات من البلوتونيوم فأنتجت طاقة تعادل ما ينجم عن انفجار 21 ألف طنّ من مادّة "تي أن تي". مقابل هذه الكيلوغرامات الستّة تقريباً، يمكن نظريّاً توليد قوّة انفجار مماثلة عبر نصف غرامٍ من المادّة المضادّة بحسب أحد الحسابات.

 

أين تكمن صعوبة تسخيرها؟

تتمثّل المشاكل الكبرى التي تعترض العلماء عند محاولة تسخير المادّة المضادّة في أنّ الطاقة المطلوبة لتوليدها أكبر من تلك الناجمة عن تدميرها. حتى بعد إنتاج المادّة المضادّة، سيتطلّب احتجازها مقداراً هائلاً آخر من الطاقة. ليس الأمر أنّ العلماء لم يتوصّلوا إلى توليد هذه المادّة. في "المنظّمة الأوروبّيّة للأبحاث النوويّة" (سيرن)، تتمكّن مسرّعات الجسيمات من توليد كمّيّات متناهية الصغر من المادّة المضادّة تصل إلى 1 أو 2 بيكوغرام (1 على تريليون غرام) من البروتونات المضادّة في السنة الواحدة. ويتطلّب إنتاج غرام واحد من المادّة المضادّة أكثر من كوادريليون دولار، أو ألف تريليون دولار بحسب "سيرن".

 
 
 

ومنذ بدء نجاح منظّمة الأبحاث نفسها في إنتاج المادّة المضادّة سنة 1995، لم تنتج "سيرن" أكثر من 10 نانوغرامات (1 على 100 مليون) من تلك المادّة وهي كافية لإضاءة مصباح كهربائيّ لمدة أربع ساعات. صحيحٌ أنّ تقديرات رحلة إلى المريخ تتطلّب كمّيّة أقلّ بكثير من غرام واحد من المادّة المضادّة، لكنّها مع ذلك، تظلّ رحلة مكلفة. في حساب نظريّ يفترض وجود مخزون من المادّة المضادّة قريب من متناول البشر، قدّر مدير مبادرة الثقب الأسود في جامعة هارفارد أفي لوب سعر برميل واحد من المادّة المضادّة بنحو 200 مليار دولار.

 

يمكننا ألّا نكون مثاليّين... كالكون نفسه!

ولّدت الثواني الأولى من الانفجار العظيم انعدام توازن ضئيلاً جدّاً بين المادّة والمادّة المضادّة ممّا مكّن الكون من التطوّر واحتضان الحياة. مقابل كلّ مليار مادّة مضادّة، كان هناك مليار ومادّة واحدة عاديّة. هذه المادّة العاديّة الإضافيّة كسرت التوازن الذي كان سيجهض كوننا في وقت مبكر. ساهم اختلال التوازن هذا في دفع العالِم الشهير ستيفن هوكينغ إلى توجيه انتقاد ملطّف للساعين إلى المثاليّة عبر القول: "إحدى القواعد الأساسيّة لهذا الكون أنّه لا يوجد شيء مثاليّ. الكمال ببساطة غير موجود. من دون هذا النّقص، لما أمكننا أنا وأنت أن نكون موجودين".

اقرأ في النهار Premium