حدث ذلك قبل عقد ونصف من الزمن. تحت أرضيّة دير قبطيّ في منطقة أبيدوس وسط مصر، عثرَ عالم الآثار المصريّ أيمن الدمراني على لوحة من الغرانيت منقوشة ومزخرفة يبلغ طولها 1.7 متراً وسماكتها 8 سنتيمترات. في سنة 2017، نشر الدمراني وزميله الأميركيّ كيفن كاهيل نتائج تحليلهما لنصوص اللوحة وزخارفها. لقد خلصا إلى أنّها جزء من ناووس تم استخدامه مرّات عدّة، بما في ذلك لمنخبر رع، وهو كبير كهنة الأسرة الحادية والعشرين. بقيت أحجية ناقصة. تم وصف مالكها الأصليّ بأنه "أمير مجهول".
لكنّ عالِماً آخر لم يقتنع تماماً
بحسب "المركز الوطنيّ الفرنسيّ للأبحاث العلميّة"، قال عالِم المصريّات في "مختبر الشرق والبحر الأبيض المتوسط" فريديريك بايرودو: "عندما قرأت تلك النتائج، كانت لديّ شكوك". وأضاف: "لقد سألت زميلي الأميركيّ إذا كان بإمكاني إعادة تفحّص القضيّة، فوافق بالنظر إلى تعقيدها".
بعد تحليل الحروف الهيروغليفيّة ومستويات النقوش المختلفة، أكّد الباحث فرضيّة إعادة استخدام الناووس لمنخبر رع، كبير كهنة الأسرة الحادية والعشرين. والأهمّ من ذلك أنه حدّد "الأمير المجهول". لم يكن سوى رمسيس الثاني.
وتابع: "كان زملائي يعتقدون أنّ الخرطوش الذي تسبقه كلمة ‘ملك‘ يشير إلى رئيس الكهنة منخبر رع الذي حكم جنوب مصر حوالي عام 1000 قبل الميلاد. مع ذلك، يرجع تاريخ هذا الخرطوش فعليّاً إلى النقش السابق وبالتالي يشير إلى المالك الأول".
(صحافيّ في معرض باريس يلتقط صورة للرأس الحجريّ الذي يجسّد رمسيس الثاني - أب)
وتشير كلمة خرطوش في الهيروغليفيّة إلى رسم شبه بيضاويّ يحتوي على رسوم وهو على تماس مع خط مستقيم على أحد طرفيه في دلالة على أنّ النص المرفق اسمٌ ملكيّ.
دليل توّج التشويق
لاحظ بايرودو أيضاً زخرفة لفتت انتباهه: "إنّها تصوّر كتاب البوّابات، وهو نصّ تمهيديّ مخصّص للملوك في فترة الرعامسة، والذي لا يمكن أن يشير إلّا إلى ناووس ملكيّ". ووضع دليلٌ أخير حدّاً للتشويق: "يحتوي الخرطوش الملكيّ على اسم تتويج رمسيس الثاني، وهو خاصّ به، ولكنّه كان محجوباً بسبب حالة الحجر بالإضافة إلى نقش ثانٍ أضيف لاستخدامه لاحقاً".
يقول بايرودو عن اللوحة إنّها "تمثّل جانباً كاملاً تقريباً من الناووس. إنها تفتقد فقط الحوافّ المنحنية التي لا بدّ من أنّ النهّابين قد قطعوها، على الأرجح في العصور القديمة المتأخّرة، من أجل الحفاظ على الجزء المسطّح فقط، لإعادة استخدامه كرصف".
بحسب "المركز الوطنيّ الفرنسيّ للأبحاث العلميّة"، أقيم في باريس السنة الماضية معرض بعنوان "رمسيس وذهب الفراعنة" وقد أتاح للزوار فرصة الإعجاب بتابوت رمسيس الثاني، بينما مومياؤه معروضة في المتحف الوطني للحضارة المصريّة في القاهرة. الآن، بات معلوماً سبب عدم عرض ناووسه للجمهور.
لكن ماذا عن لغز السارق؟
جاء حكم رمسيس الثاني (1279-1213 قبل الميلاد)، فرعون الأسرة التاسعة عشرة، في أوائل النصف الثاني من عصر المملكة الحديثة، وهي آخر فترة من المجد والازدهار في مصر القديمة. لقد حكم لمدّة 67 عاماً تقريباً، وهي فترة أطول من أي من فترة حكم لأسلافه، مما أتاح له متّسعاً من الوقت لترك بصمته. أطلق عليه لقب "الفرعون البنّاء"، وأشرف على بناء المعابد في جميع أنحاء مصر. ويشير بايرودو، بحسب التقرير نفسه، إلى أنّه "من النادر جداً عدم العثور على اسم رمسيس الثاني في موقع قديم، حتى أنّه أضافه إلى آثار أقدم، من أجل تلميع ذكرى عهده، وقد نجح الأمر".
يعرف العلماء الآن أنّ رمسيس الثاني دُفن في تابوت ذهبيّ وقد سُرق في العصور القديمة، ووُضع في ناووس داخليّ من المرمر، وهو ذاك الذي وُجد محطّماً إلى قطع في قبره، ثم في ناووس أكبر من الغرانيت والذي نهبه، بعد 200 عام على حكم رمسيس الثاني، منخبر رع لقبره الخاص.
#CNRSnews 📰 The long-lost sarcophagus of Ramses II has been formally identified by a CNRS Egyptologist, based on the analysis of a decorated a granite slab found in Egypt in 2009, putting an end to a long-standing mystery ⚰️https://t.co/ZIbSs8PSH7
— CNRS 🌍 (@CNRS) June 11, 2024
يوضح بايرودو: "هذا دليل آخر على أنّ وادي الملوك كان هدفاً متكرّراً للنهب، بخاصّة خلال حكم الأسرة الحادية والعشرين. لقد كانت فترة أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة أدّت إلى نقص حاد في الموادّ، حتى أنّ الملوك أعادوا استخدام الأشياء الجنائزيّة لأسلافهم".
يشار إلى أنّ الناووس يكون حجريّاً على الأغلب ويوضع فوق الأرض، بينما يكون التابوت خشبيّاً ويوضع داخل الناووس نفسه. والناووس ترجمة لكلمة sarcophagus وتعني في أصلها اليونانيّ "آكل اللحم".