"لا تواصل القول لنفسك... ‘لكن كيف يمكن (للطّبيعة) أن تكون هكذا؟‘، لأنّك ستهوي إلى زقاق مسدود لمّا يفلتْ منه أحد بعد. لا أحد يعرف كيف يمكن أن يكون الأمر هكذا".
كانت هذه كلمات عالم الفيزياء النظريّة وأحد أبرز روّاد ميكانيكا الكمّ ريتشارد فاينمان، بحسب الصحافيّ المتخصّص في الشؤون العلميّة جون هورغان. كتب هورغان على مدوّنته في 22 أيّار (مايو) أنّ فهم ميكانيكا الكمّ لا يزال صعباً جدّاً بالرغم من جميع التفسيرات التي أحيطت بخصائصها.
لكنّ الحياة ليست معقّدة على مستوى الكمّ وحسب. حتى في عالم الماكرو الذي يُفترض أن يكون أسهل، تبدو الاكتشافات الجديدة أقلّ قدرة على إشباع فضول الإنسان. ربّما هذا من حسن حظّ البشريّة، لأنّه من دون الفضول، سيتباطأ على الأرجح مسار التطوّر.
إكسير الخلود
في الوقت الذي كان هورغان يتحدّث عن معاناته في فهم الحياة مستذكراً مثل أفلاطون الشهير عن "الكهف" و"الحقيقة"، كان عالِم الأحياء الجزيئيّة في جامعة جنوب كاليفورنيا جون تاور ينشر دراسة تتناول أحد أهمّ الأسئلة المستعصية على فهم الإنسان: "لماذا نشيخ؟"
انتقل الإنسان من البحث عن إكسير الخلود في الأساطير إلى البحث عنه في العلوم الطبيعيّة خلال مرحلة سريعة نسبيّاً. بين ملحمة غلغامش وحقبة ديفيد سينكلير، عالِم الوراثة المقتنع بأنّ الشيخوخة مرض يمكن معالجته، أقلّ من 4500 عام. هي فترة قصيرة نسبيّاً، إذا تمّ الأخذ بالاعتبار أنّ عمر الإنسان العاقل (Homo Sapien) نحو 300 ألف سنة.
#خاص
— Annahar Al Arabi (@AnnaharAr) May 16, 2024
بين #العِلم و"أنبياء الخلود"... هل يمكن تجنب #الموت؟ https://t.co/n64oNIfWTI @Annahar
للتذكير بمدى سرعة تطوّر العلم في مجال إطالة العمر، ينعم الإنسان اليوم بما لم يكن لينعم به كثر قبل بضع مئات من السنوات. في القرون الوسطى مثلاً، لم يكن أمراً شائعاً جداً أن يعيش المرء ليرى أحفاده يلعبون بالقرب منه. حتى في العقود الأخيرة، ارتفع متوسّط العمر المتوقّع لدى الإنسان من 51 إلى 72 عاماً منذ سنة 1960 وحسب، كما كتبت مجلّة "إيكونوميست" السنة الماضية تحت عنوان: "عصر الأجداد قد وصل".
يجادل علماء الأنثروبولوجيا، كما تفعل عالمة الآثار البيولوجيّة شارون ديويت دفاعاً عن ضرورة التمييز بين متوسّط عمر الإنسان المتوقّع عند الولادة والعمر الافتراضيّ لدى الإنسان، مشيرة إلى أنّ متوسّط العمر المتوقّع لدى الطفل مختلف عن ذاك المتوقّع عندما يبلغ الطفل نفسه 25 عاماً. لكنّ الفكرة تبقى نفسها إلى حدّ كبير، وهي أنّ الإنسان اليوم أصبح يتقدّم في السنّ أكثر وعلى نطاق أوسع.
تاور يقلب المفاهيم
مع فكرة عالِم الأحياء الجزيئيّة في جامعة جنوب كاليفورنيا جون تاور، يُقلب التصوّر الشائع عن الشيخوخة رأساً على عقب، أو يكاد. تتمثّل الشيخوخة بالتدهور المطّرد في عمل الخلايا بدءاً من عمر معيّن وصولاً إلى تفكّكها مع الموت. بهذا المعنى، تعمل الشيخوخة بعكس ما تفترضه نجاة الإنسان وصمود النوع. بشكل أو بآخر، هذا هو التصوّر الواسع الانتشار عن التقدّم في السنّ. يردّ تاور على هذه الفكرة في دراسته إذ يشير إلى أنّ الشيخوخة مظهر من مظاهر حماية النّسل البشريّ.
يدّعي تاور أنّ مفهومه المسمّى "عدم الاستقرار الانتقائيّ المفيد" يؤدّي إلى فقدان الطاقة والموارد وتراكم الطفرات الجينيّة التي قد تكون ضارّة أو حميدة. يتوقّع تاور أن تكون هذه "هي الطريقة التي ينتهي بها الإنسان عند الشيخوخة البيولوجيّة".
فبسبب تداعيات عدم الاستقرار هذا، يمكن للإنسان أن يتكيّف مع التحدّيات التي تواجهه في الطبيعة ويتفوّق عليها. وبما أنّ الخلايا تعيش في انعدام الاستقرار هذا، يمكن أن توجد في حالة من اثنتين: واحدة بعنصر غير مستقرّ حاضر، والثانية بعنصر غير مستقرّ غائب. وأوضح أنّه "يمكن لهذا أن يكون مواتياً للحفاظ على جين طبيعيّ وجين طفرويّ في مجموعة الخلايا نفسها، إذا كان الجين الطبيعيّ مواتياً في حالة خلويّة واحدة والطفرة الجينيّة مواتية في حالة خلويّة ثانية". قد تأتي الشيخوخة بسبب البناء والتفكيك المتكرّرين لهذه العناصر غير المستقرّة، بحسب تاور.
"فرضيّة الجدّة"
إذا صحّت هذه الدراسة فسيتحتّم تطوير فهم الشيخوخة باعتبارها أبعد من مجرّد قانون عشوائيّ في الطبيعة، إن لم تكن نقيضاً له. فبدون الشيخوخة، أمكن أن يكون بقاء البشر أكثر إشكاليّة. بالتالي، وعلى الرغم من كلّ التناقض الذي قد يبدو عليه الموضوع، كان الموت الطبيعيّ للإنسان-الفرد جزءاً من أسباب صمود البشريّة وتطوّرها على مدار مئات الآلاف من السنوات.
قد لا تكون فكرة تاور جديدة. فلنفكّر مثلاً بـ "فرضيّة الجدّة". تقول النظريّة إنّ النساء كنّ يتمكنّ في الماضي من الإنجاب حتى سنّ متأخّرة. وهذا يخدم ازدهار الحياة صحيح؟ ليس كذلك بحسب الفرضيّة. فالجدّة التي كان عليها الاهتمام بأولادها في مرحلة متقدّمة من عمرها، لم تتمكّن من الاهتمام بأحفادها. انتهى الأمر بأن تفقد هي وأبناؤها عدداً أكبر من الأطفال بسبب هذا الانشغال. بمرور الوقت، ومع عودة اهتمام الجدّات بأحفادهنّ، فقدنَ القدرة على الإنجاب لأنّها لم تعد ضروريّة لازدهار الحياة.
كيف يمكننا فهم هذه "التناقضات"؟
قد يتعيّن علينا مقاربة هذا الأمر من زاوية مختلفة. بحسب الخبير في الإحصاء الرياضيّ والاحتمالات والعشوائيّة نسيم نيقولا طالب، ينبغي التوقّف عن النظر إلى نظام باعتباره مجموعة من الأفراد. أشار طالب في كتابه "على المحكّ" إلى أنّ "تجربة النظام مختلفة عن تجربة الأفراد، ويقوم أساسها على الغربلة".
بالتالي، يمكن فهم الشيخوخة والموت كأداة فعّالة لنظام الحياة على الأرض من أجل غربلة مَواطن الضعف ومواصلة التكيّف مع التطوّرات وتفادي الفناء. وعلى أيّ حال، هذا ما كتبه طالب أيضاً: "إنّ هشاشة العناصر المكوّنة لنظام (بشرط أن تكون قابلة للتجدّد والاستبدال) مطلوبة لضمان متانة النظام ككلّ". ويضيف: "قصر مدّة حياة البشر يسمح بأن تكون التغيّرات الوراثيّة عبر الأجيال متناسقة مع تغيّرات البيئة".