من ينسى أن عملاقة التكنولوجيا الذكية على غرار الراحل ستيف جوبز الذي أدار "أبل" طويلاً، وبيل غيتس، مؤسس مايكروسوفت، كرروا علانية أنهم يُبعدون أبناءهم في سني الطفولة والمراهقة عن التكنولوجيا، قدر المستطاع؟
يصعب تفادي التفكير في ذلك مع تراكم الدلائل على تحول التواصل الافتراضي إلى إدمان، خصوصاً لدى شباب الجيل "زد".
وقد تضمّن مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" مطالبة الجرّاح العام الأميركي، فيفيك مورثي "بوضع علامة تحذيرية على منصات وسائل التواصل الاجتماعي مماثلة لتلك المستخدمة على منتجات التبغ والكحول"، بهدف الإشارة إلى أنها تضر بالصحة العقلية للمراهقين. وأضاف، "إن قضاء أكثر من 3 ساعات يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي يضاعف خطر أعراض القلق والاكتئاب لدى المراهقين، بالإضافة إلى أن نصف المراهقين تقريباً تسبّب لهم المنصات مشكلات في صورة الجسد "ديسمورفوبيا" Dysmorphia".
وفي مسار موازٍ، صوتت مدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، لصالح فرض حظر كامل على استخدام الهواتف الذكية في المدارس العامة للمدينة. وقد لفت مسؤول في تلك المدينة إلى أن "المدارس التي جرّبت حظر الهواتف ليوم كامل تحقق نتائج مذهلة: فقد بات الأطفال أكثر سعادة، ويتحدثون مع بعضهم البعض، وقد تحسّن أداؤهم التربوي".
وكذلك يسعى حاكم تلك الولاية الأكثر تعداداً بالسكان في الولايات المتحدة، إلى حظر استخدام هذه الأجهزة في المدارس بغية الحد من تأثيرها على صحة الطلاب العقلية.
قلق عابر لضفتي الأطلسي
في سياق متصل، نشرت صحيفة "غارديان" تقريراً وُضِعَ بتكليف من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يشدد على ضرورة منع الأطفال من استخدام الهواتف الذكية حتى سن 13 ومنع استخدامهم معظم وسائل التواصل الاجتماعي مثل "انستغرام" و "تيك توك" و"سناب شات" حتى يبلغوا 18 عاماً.
وقبل ذلك، طلب ماكرون من علماء وخبراء بلورة اقتراحات بشأن استخدام أبناء الجيل "زد" للشاشات كي تُتَّخذ خطوات غير مسبوقة حيالها.
تتوالى الدراسات عن الآثار السلبية للاستخدام المفرط للهواتف المحمولة، خصوصاً زيادة التوتر والقلق والاكتئاب ومشاكل النوم وبمشاعر عدوانية وأفكار انتحارية بين أفراد الجيل "زد".
وفي بريطانيا، ظهر أخيراً كتاب "الجيل المقلق: كيف يتسبب تغيير شكل الطفولة بوباء من المشكلات النفسية" من تأليف خبير علم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت. ووفق إحصاء رسمي بريطاني، يملك نحو 97 في المئة من الأطفال هاتفاً ذكياً في سن الـ12.
وبشكل أساسي، ركز هايدت على أربعة "حرمانات" يعانيها المراهقون في حياتهم المتمحورة حول الخليوي، وتتمظهر بقلة النوم، وانخفاض التركيز الذهني، وتقلص التفاعلات الاجتماعية، وإدمان الشاشات الذي يعني قلة القدرة على السيطرة.
ووفق هايدت، تحوّل أفراد الجيل "زد" إلى وجوه مسمَّرَة على شاشات الهواتف الذكية، تتلقى كل ما يُعطى لها، من دون تفاعل.
ولاحظ أنه قبل سنوات قليلة، لم يتصور الشباب أو المجتمع أو حتى شركات التكنولوجيا أن الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي قد تتسبب بكل هذه الأضرار. وقد اتضح ذلك الآن.
السوشيال ميديا ودماغ الطفل والمراهق
وعن تلك الظاهرة، تحدثت "النهار" مع الأستاذة المساعدة في علم النفس في الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتورة ميريام خوري ملحمة، عن جانبين من الدماغ، الجانب العاطفي المسؤول عن العواطف والمشاعر والجانب العقلاني. وعادة يكون الجانب العاطفي عند الأطفال أكثر سيطرة، لذلك نرى الطفل يبكي كي يحصل على شيء ما، لأنه لا يعرف إيصال فكرة بطريقة منطقية".
وترى أن الاستخدام المبكر للخليوي يؤثر على نمو الدماغ، وكلما ابتدأ ذلك في عمر أصغر، تفاقمت المشكلة.
وفي المراهقة، تبرز مشاكل نفسية تشمل التعرض للتنمر، وصورة الجسد، والقلق والاكتئاب، وأحياناً إلى الانتحار. وبالتالي، تصبح وطأة مواقع التواصل الاجتماعي أكبر على صحته النفسية وحياته الاجتماعية.
ووفق خوري ملحمة إن "الطفل أصبح يجد في هذه الوسيلة حلاً لكل ما يشعر به"، فيستعمله في حالات الحزن والغضب والجوع والضجر وغيرها. والبكاء. وتضيف، "على المدى الطويل نحن أمام حالة إدمان متفاقمة على الهواتف الذكية".
تعترف خوري ملحمة بأن التجربة مع تلك الأجهزة أثبتت أنها "تضر أطفالنا" لجهة النمو النفسي والاجتماعي.
وتتشابه الوقائع التي تعرضها خوري ملحمة مع ما أورده جوناثان هايدت في كتاب "الجيل المقلق"، الذي ينحى باللائمة على شركات التكنولوجيا في تفاقم انتشار المشكلات النفسية لدى الجيل "زد".
وكذلك تؤكد خوري ملحمة أن الأُسَر والمدارس يشتكون من قلّة التركيز لدى الأطفال والمراهقين.
وقد استعمل هايدت وصف "الجيل المقلق" للإشارة إلى جيل أضاع طفولته الحسية لمصحلة طفولة "افتراضية" أضرت به.
وكذلك تشير خوري ملحمة إلى دراسات عديدة أظهرت أن الأطفال والمراهقين هم أكثر عرضة للاكتئاب والقلق وأقل قدرة على التفاعل والابتكار والحركة والمخاطرة، وكأن الطفل صار "مُعلباً".
تأثير النماذج والاستلاب الثقافي
كذلك تتطرق الأستاذة المساعدة إلى المطالبة اليوم بتعديل قوانين منصات التواصل الاجتماعي ورفع سن استخدامها من 13 عاماً إلى 18 عاماً. وترى أن تلك السنوات تتصف بتأثر المراهقين بالنماذج التي تُعرض له، وهي مغايرة لثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، ما يهدد بزيادة الهوة بين الأجيال".
واستكمالاً، تحذّر خوري ملحمة من التنمر الالكتروني والابتزاز الجنسي الذي يصعب السيطرة عليه في العالم الافتراضي، بل سُجّلت حالات انتحار مرتبطة به.
في الصورة الواسعة، تبيّن خوري ملحمة ضرورة اتخاذ خطوات للوقاية من تلك التأثيرات العميقة والسلبية. ووفق رأيها، "تبدأ هذه الخطوات بمصارحة الأولاد عن مخاطر الافراط في استخدام الأجهزة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي، الخروج من التخبط والغموض في هذا المجال. ومن المهم وضع حدود لكيفية ومدة استخدام هذه المنصات حسب عمر كل شخص".
في سياق آخر، لم يخفِ التقرير الفرنسي عن مخاطر استخدام الهواتف مواقع التواصل الاجتماعي، دور شركات التكنولوجيا التي تتوسع في استعمال أساليب الجذب والإثارة، لاصطياد مراهقي "الجيل زد" أثناء مرحلة من تطورهم تتجاوب فيها أدمغتهم مع تلك المغريات.
وبحسب كلمات ذلك التقرير، فإن الأطفال بحاجة إلى الحماية من "استراتيجية صناعة التكنولوجيا التي تهدف إلى الربح لجذب انتباه الأطفال. وبإختصار، أصبح الأطفال "سلعة" في سوق التكنولوجيا الجديدة".
خوارزميات تجتذب المتصفح
في هذا الصدد، يُصرح خبير الأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات سلوم الدحداح أن "تعتمد منصات التواصل الاجتماعي على نوع من الذكاء الاصطناعي يساعدها في التعرف على المحتوى الذي يميل إليه كل فرد. وبالتالي، تقدم للمتصفح مقترحات تتناغم مع المحتوى المفضل لديه كي تجذب انتباهه لأطول فترة ممكنة. وكلما زادت تلك المدة، ترتفع أرباح الشركات معها. لقد عملت الشركات العملاقة على صنع خوارزميات تتعامل مع الناحية النفسية لكل متصفح كي تجذبه".
في مسار متصل، يؤكد خبير الأمن السيبراني على وجود عدد من الأدوات التي يمكن أن تساعد في الوقاية من هذه الظاهرة، من بينها تحديد المدة التي يجب أن يقضيها الطفل على هذه المنصات فلا يكون استخدامه لها مفتوحاً من دون قيود زمنية. وينصح الأهل بتصفح ومراقبة نوع المحتوى الذي بحث عنه أولادهم، لحمايتهم من تبني مفاهيم أو أشياء مغلوطة.