أحمد مغربي
بعد عشرين سنة من تلك البداية الساحرة لـ"فايسبوك" كمشروع شبابي يطمح إلى نشر المعرفة عالمياً، تروّج صورة التنافس بين شركتي "ميتا" و"أبل"، لكنها قد لا تكون منافسة أصيلة. ولعلها ناجمة عن أمواج التسونامي الهائل الذي أحدثه الذكاء الاصطناعي التوليدي في مشهدية ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطورة.
وفي 2023، وصل المركب الأسطوري لمؤسسة مارك زوكربرغ إلى بحر الـ"ميتافيرس" Metaverse الافتراضي، آتياً من مياه مشابهة مهدت له مثل "سيكوند لايف" Second Life في 2003 و"فايس هورايزون" في 2019. في 2021، بدّل المركب أشرعته وصار اسمه شركة "ميتا"Meta . ثم تلقفته إلى الأمواج العاتية للذكاء التوليدي. ومع التماع بروق النموذج التوليدي "للاما" Llama، تلاعبت أضواءٌ مبهرة بالمشهد الرقمي، لكن هنالك أساسيات يجب التنبه لها دوماً، فيما تبقى آفاق المستقبل مفتوحة على احتمالات لا حصر لها.
صُناع الكومبيوتر ومبتكرو النماذج الكبرى
ثمة توضيحات باتت تفرض نفسها.
في الأساسيات، تمثل "أبل" شركة تعمل أساساً على إنتاج أجهزة متطورة، خصوصاً كومبيوتر "ماك"، وكذلك "آيفون" و"آيباد" و"آيبود" وغيرها. شكَّلَتْ تلك المنتجات الأساس في وصول "أبل" إلى شركة عملاقة بتريليونات الدولارات. ويرافق تلك السلع منتجات معرفية غير ملموسة، خصوصاً نظام التشغيل "آي أوس" iOS، وتطبيقات كمخزن "آي تيونز" والمساعد الرقمي الذكي "سيري" Siri ومحرك البحث "سفاري"Safari وغيرها.
واستطراداً، يكوّن المعطى المعرفي غير الملموس المكوِّن الرئيس لشركة "ميتا". ولم تدخل فعلياً مجال المنتجات الملموسة إلا بعد تملكها شركة "أوكيولوس" Oculus صانعة النظارة الرقمية الشهيرة التي استند إليها زوكربرغ في مشروعه الضخم "ميتافيرس" Metaverse. وحتى الآن، تستمر "ميتا" في إنتاج طاقم "ميتاكويست" Meta quest بعدما تحولت النظارة إلى خوذة رأس شاملة تتعامل وتصنع عوالم افتراضية بالأبعاد الثلاثية وتساندها آليات التعامل مع الصوت والصورة واللمس الافتراضي.
إذاً، ثمة مدى واسع يفصل "أبل" عن "ميتا"، على الرغم من أن الأخيرة تبحر تدريجياً إلى السوق التريليونية الواسعة للأجهزة المتطورة.
وحتى الآن، لا تصنع "أبل" أي نموذج كبير للذكاء التوليدي، لكنها تسعى إلى إدخال خصائص تلك التقنية إلى منتجاتها كبرنامج "أبل أنتليجنس" أو تطوير نظام "ماك أوس" وغيرهما.
الذكاء التوليدي وآفاقه الغامضة
في المقابل، أحدثت اندفاعة الذكاء التوليدي نقلة نوعية في التكنولوجيا.
وفي سياق ذلك المسعى، تفاوضت "أبل" مع الشركات التي تصنع النماذج الكبرى للذكاء التوليدي كـ"جيميني" Gemini [تابعة لـ"غوغل"] و"بيربليكستي إيه آي" ، و"ميتا" و..."أوبن إيه آي" صانعة روبوت الدردشة التوليدي "شات جي بي تي" الذي زلزل عوالم التكنولوجيا منذ إطلاقه في خريف عام 2022. لم تتوصل إلا إلى اتفاق عميق مع "أوبن إيه آي"، لكنه أثار نقاشات كبرى عنه. واستمرت في نقاش عن إدخال مزايا وخصائص توليدية إلى أجهزتها، على غرار إتاحة برنامج "جيميني" في أجهزتها وما إلى ذلك.
إذاً، لا تصنع "أبل" نماذج كبرى في الذكاء التوليدي، لكن لا يعني ذلك أنها قد تحجم عن ذلك بالكامل، ولا ينفي أنها قد تنخرط في تلك الصناعة في أي لحظة.
في المقابل، أحدث زوكربرغ قفزة كبرى في مشروعه الضخم ودخل إلى عوالم صناعة النماذج الكبرى في الذكاء التوليدي. وبات لمركب "ميتا" العملاق خمسة أشرعة كبرى هي "انستغرام" و"واتساب" و"للاما" و"فايسبوك" و"ميتافيرس" مع أجهزة "ميتاكويست" التي تتكاثر ببطء... حتى الآن.
إذاً، ليست الأجهزة هي الصنعة الرئيسة لزوكربرغ. لكن، من يدري؟ لمَ لا ينخرط في تلك الصناعة في أي لحظة، خصوصاً أن أجهزة "ميتا كويست" قد فتحت أمامه درب عوالم الألعاب الافتراضية المقدرة بتريليونات الدولارات أيضاً؟
باختصار، لا تنافس أساسياً بين "أبل" و"كويست"، ولا تغيب المنافسة عن علاقتهما، وقد تنقلب تلك العلاقة المتلاعبة في أي لحظة، وتسير نحو ذلك المقلب أو عكسه كلياً.
العودة إلى "نابستر"؟
في مطلع عام 2004، انبثق مشروع "فايسبوك" تحت أفق شبابي يسعى إلى تحرير آليات انتقال المعرفة بين البشر. وقبل ذلك، أسس شون باركر موقع "نابستر" الذي حرر تبادل المحتوى بين الجمهور، قبل أن تقضي على آماله اليد القوية لشركات المعلوماتية. ولاح أن الصداقة بين زوكربرغ وباركر، تجدد السعي إلى تلك الحرية.
ثم انهارت الصداقة. تلاشى مشروع الحرية المعرفية، وصعد نسيج الأموال والمصالح والنفوذ. وسار زوكربرغ بـ"فايسبوك" إلى كونه منصة أسطورية تحرك مئات ملايين البشر، من "الربيع العربي" إلى التجنيد الإرهابي عبر السوشيال ميديا، ومروراً بفضيحة "آنالتيكا" التي سجلت سابقة في تدخل استخباراتي مفترض بالانتخابات الأميركية وغيرها.
ضاع النموذج المفتوح للمعرفة، لكن تدافع آليات صناعة التكنولوجيا، قد تلوِّح بأمر آخر.
ولأسباب متنوعة، تتصدر النماذج المفتوحة مصدر المشاريع الكبرى للذكاء التوليدي.
وتحديداً، يعمل نموذج "للاما" بتلك الطريقة، ويهيمن على شيفرته برنامج "بايتون" Python الشهير المفتوح المصدر.
ولنتذكر أن نظام التشغيل "أندرويد" مفتوح المصدر، وقد بات الأساس لما لا يحصى من الأجهزة الذكية الممتدة من الهواتف إلى التلفزيونات وغيرها.
ويسهل نقل النماذج المفتوحة المصدر وتعديلها كي تعمل وفق توجه أساسي معين. وبالتالي، ظهر نوع من الانتشار المفتوح للذكاء التوليدي. ولعل خطوة الإمارات في صنع النموذج الكبير "فالكون" بالاستناد إلى "للاما"، نموذج عن ذلك.
ويرى ملاحظون للتطور التكنولوجي أن استمرار هذا الاتجاه يقلص الفجوة المعرفية التي شكلت الهاجس الأساسي للمشتغلين على انتشار المصادر المفتوحة. في المقابل، ثمة من يعترض مشدداً على أهمية الانتشار المتساوي لتقنيات الذكاء التوليدي كضرورة للاستفادة الآمنة منه، وللوقاية الفعلية من مخاطره العميقة على البشر.
هل إنها عودة إلى تجربة "نابستر" عبر تعميم النماذج الكبرى للذكاء التوليدي؟ لننتظر ولنرَ.