ثمّة اختراعات كثيرة خُصّصت في البداية لأغراض عسكريّة قبل أن تنتشر لاحقاً إلى المجال المدنيّ. "نظام التموضع العالميّ" (جي بي أس) أحدها. كان هدف الاختراع في الأساس مساعدة الصواريخ على إيجاد أهدافها. أطلقت وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) هذا المشروع سنة 1973 قبل أن يتطوّر على مراحل.
لكن في سنة 1983، أسقط السوفيات طائرة تجاريّة كوريّة اخترقت مجالهم الجوّي عن طريق الخطأ. لهذا السبب، سمح الرئيس الأسبق رونالد ريغان بإمكانيّة وصول القطاع المدنيّ إلى الـ"جي بي أس"، بحسب موقع "الميكانيكا الشعبيّة". خضعت الخدمة المدنيّة لهذا النظام للتّلاعب المقصود بحيث تُرك لإحداثيّاته مجال خطأ بشعاع مقداره 100 متر. كان الهدف من ذلك ضمان تمتّع الجيش بالدقّة الفضلى. لاحقاً، أمر الرئيس بيل كلينتون بوقف هذا التلاعب بعدما تبدّدت المخاوف الدوليّة السابقة.
اليوم، تعود هذه المخاوف لتطغى من جديد على التوازن بين الاستخدامين المدنيّ والعسكريّ. فمهاجمة وتخطي نقاط الضعف لـ"جي بي أس" أصبحا ميداناً سريع التطوّر في الحرب الإلكترونيّة المعاصرة بحسب الباحث في "ناسا" دونغ وو، إذ ازداد التشويش بنسبة كبيرة في مناطق النزاعات كشرق المتوسّط وبحر البلطيق والقطب الشماليّ خلال السنوات الأخيرة.
بين التشويش والتزييف
يعدّ تشتيت الصواريخ والمسيّرات المعادية أحد أبرز أسباب التشويش أو التلاعب بإشارات نظام التموضع العالميّ. ويمكن فهم حجم المخاطر التي يتعرّض لها الطيران التجاريّ بسبب عرقلة إشارات نظام التموضع العالميّ، أكان من خلال "التشويش" (jamming) أو تزييف الإشارات (spoofing). الأوّل قد يكون أسهل لأنّ الإشارات بين الأقمار الاصطناعيّة والأرض تضعف بمرور المسافة. أمّا الثاني فهو أكثر تطلّباً وتعقيداً وهو يمثّل صداعاً أكبر للطيّارين بحسب مجلّة "إيرويز" التي تعنى بأخبار الطيران التجاريّ.
أحياناً، قد يكون مجرّد ظهور سفن في المطارات (بيروت، نيسان 2024) إحدى نتائج الاضطرابات المثارة في إشارات نظام التموضع العالميّ. لكن في بعض الحالات النادرة، أدّى تزييف الإشارات إلى إطلاق جهاز إنذار في الطائرات بسبب اقتراب غير صحيح من الأرض بحسب "إيرويز".
من وسيلة إلى هدف
إذا كان نظام التموضع العالميّ (وهو جزء من النظم العالميّة لسواتل الملاحة GNSS) أداة لا يمكن الاستغناء عنها في الحروب لتحديد الأهداف العسكريّة بدقّة، فقد تصبح هذه الأداة هدفاً رئيسياً لأحد أطراف الحرب. ربّما جسّدت سنة 2007 منعطفاً أساسياً في هذا المجال، حين تمكّنت الصين من إسقاط قمر اصطناعيّ بصاروخ خاصّ، الأمر الذي جعلها أوّل دولة غير أطلسيّة تكشف عن قوّة كهذه.
بحسب "نيويورك تايمز"، تتمتّع الولايات المتحدة والصين بقوّة ضرب أو "خطف" الأقمار الاصطناعيّة الخاصّة بكلّ منهما. في الوقت نفسه، يكاد يصبح "جي بي أس"، بالرغم من موثوقيّته وبساطته، متخلّفاً عن النظامين الأوروبيّ (غاليليو) والصينيّ (بَيدو) وهو سهل الاستهداف بالنظر إلى قدمه. وتعمل دول أخرى مثل اليابان والهند على تطوير أنظمة مشابهة. ولا تملك الولايات المتّحدة نظاماً مدنياً احتياطياً حتى الآن بحسب التقرير نفسه.
أهمّيّة الفضاء للازدهار
يبيّن تحليلٌ لـ"المجلس حول الاستراتيجيّة الجغرافيّة"، وهو مؤسّسة أبحاث بريطانيّة، أنّ قوّة الفضاء أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من عناصر القوّة الوطنيّة. لكنّ ذلك يخاطر بتحوّل الفضاء من ملاذ وإرث مشترك للبشريّة (التصوّر الليبراليّ الأمميّ) إلى نوع جديد من "جيوسياسات النجوم" وخصوصاً في حسابات الدول التنقيحيّة. بحسب المجلس نفسه، إنّ الفضاء حيويّ للازدهار في الحقبة المعاصرة، إذ من دونه، سيتوّقف المجتمع المعاصر عن العمل.
قد يكون ارتفاع أسعار التأمين على رحلات الطيران المدنيّ بسبب ازدياد حالات تشويش/تزييف إشارات نظام التموضع العالميّ أحد الأمثلة السريعة عن انعكاس "حرب الفضاء" على الازدهار، هذا إلى جانب تأخير أو حتى تغيير مواعيد انطلاق الرحلات. وذكرت "نيويورك تايمز" أنّ نحو 60 ألف طائرة تجاريّة تعرّضت لإشارات مزيّفة من "جي بي أس" هذه السنة وحدها. وهناك توقّعات بأن تزداد حدّة الهجمات على "نظام التموضع العالميّ" في المستقبل.
"تشظٍّ"
سنة 2020، كتب سمير ناسار، رئيس مؤسّسة "أوبزرفر ريسيرتش فاونديشن" ومقرّها الهند، أنّ "فكّ الارتباط" بين الصين والولايات المتّحدة لن يبقى محصوراً في الاقتصاد بل سيكون مقدّمة لما سيحصل في مجالات أخرى. الآن، يبدو أنّ "التشظّي" وصل إلى النظم العالميّة لسواتل الملاحة بحسب تأكيد شون غورمان في مجلّة "سْبَيس نيوز" الشهر الماضي. ويضيف أنّه سيكون لذلك "عواقب جيوسياسيّة وتجاريّة وإنسانيّة بارزة" بما أنّ تراجع الاعتماد على خدمة واحدة مثل "جي بي أس" سيجعل جميع أنظمة الملاحة القائمة على الأقمار الاصطناعيّة أكثر عرضة للتدخّل، كما لهجمات سيبرانيّة وحركيّة (kinetic) أخرى.