أحمد مغربي
أدى التشويش الإسرائيلي على اتصال لبنان بنظام "جي بي أس" إلى نقاش عن بدائل ذلك النظام المستند إلى منظومة استراتيجية من الأقمار الاصطناعية لمراقبة الأرض كلها. وبالتالي، فإن الخيار البديل يعني الانتقال من منظومة استراتيجية للأقمار الاصطناعية إلى منظومة اخرى. وهناك قلة من البدائل لـ"جي بي أس" صنعتها قوى كبرى، مثل منظومة الاتحاد الأوروبي "غاليليو" والروسي "غلوناس" والصينية "بايدو". إنه صراع الجبارة وقد انتقل إلى الفضاء. والأهم أن برامج المعلوماتية والاتصالات وشبكاتها لديها خيارات استراتيجية في ذلك الأمر، وبالتالي، يتعقد أمر "البديل" ليصل إلى البرامج وأشكال الاتصالات المستعملة في الحياة اليومية.
بدائل "جي بي إس"... ماذا عن البرامج والتطبيقات والشبكات؟
لا يصعب تصور المدى الاستراتيجي والمعقد لمسألة اللجوء إلى خيار بديل عن "جي بي أس"، ومدى تغلغل تأثيره في الحياة اليومية للناس.
لنبدأ بأن "جي بي أس" GPS، اختصار عبارة "النظام تحديد المواقع على الكوكب" Global Positioning System هو منظومة أقمار اصطناعية عسكرية صنعها البنتاغون، واستند إليها في أعمال تتعلق بالقوة العظمى التي تمثلها أميركا. ونُقلت خدماته إلى الاستخدام المدني الواسع في العام 2000، بالترافق مع العولمة وثورة الكومبيوتر والإنترنت والخليوي وشبكاته التي تغطي العالم. وفي ظل تلك الصورة، صنعت شركات المعلوماتية كل البرامج والتطبيقات والمنصات، وكذلك نُسِجَتْ شبكات الاتصالات المتطورة.
وتغلغل نظام "جي بي أس" في تلك المعطيات كلها.
وفي مثل معبِّر، يعتمد محرك البحث "غوغل" على "جي بي أس"، ويعني ذلك أن "جي بي أس" معتمد في البرنامج الذي يستخدمه مليارات البشر، وبات جزءاً من حياتهم، والأهم أن أعداداً ضخمة من البرامج والتطبيقات تستند إليه. لقد بات البُعد الرقمي نسيجاً أساسياً في قماشة الحياة اليومية. ويصعب العثور على قطاع أو نشاط بشري أساسي لا تتدخل فيه تلك المعطيات.
صراعات القوى الكبرى في فضاء الاتصالات
وإضافة إلى التشديد على أن بدائل "جي بي أس" تمثل خيارات استراتيجية. ووضع الاتحاد الأوروبي نظام "غاليليو" Galileo لتحديد المواقع الجغرافية على الأرض، كجزء من قوة الاتحاد الأوروبي. ولا يصعب تصور أمر مشابه بالنسبة إلى نظام "غلونوس" Glonass الروسي.
ويظهر التشابك بين الاستراتيجي والتقني [المعلوماتي والاتصالي] في منظومة "بايدو" Baidu الصينية التي تشكل جزء "سور الصين الرقمي العظيم" التي تسوِّر "بلاد العم ماو". وكذلك فإن محرك البحث "بايدو" معتمد في الصين كبديل لمحرك البحث "غوغل"،WeChat و"وويشات" بديل لـ"فايسبوك" وهكذا.
وفي السياق نفسه، وللتشديد على التشابك في معطيات الاتصالات، يمكن استحضار صراعات الدول في التجاذبات الاستراتيجية القوية حول شبكات "الجيل الخامس للخليوي" ووضيعة شبكة "هواوي" الصينية فيها.
إذاً، كما الفضاء كذلك على الأرض. وربما يبدو المثل الصيني قويّاً لكنه يظهر المدى الواسع لمسألة خيار البدائل في منظومة تقنية أساسية واستراتيجية للعالم كله كـ"جي بي أس".
وليس ببعيد عن ذلك، أن الهند لديها منظومة أقمار اصطناعية لتحديد المواقع الجغرافية تسمى "آي آر إن أس أس" IRNNS، اختصاراً لعبارة Indian Regional Navigation Satellite System. في المقابل، يشكل نظاماً إقليمياً يغطي المدى الهندي أساساً، ولا تعتمده بلاد غاندي كبديل حصري، لأنها تستعمل "جي بي أس" أيضاً.
وفي تفصيل آخر، هنالك بدائل كثيرة عن خوادم نظام "جي بي أس" لتلقي ما تبثه تلك المنظومة، وذلك أمر آخر لكنه يجب أن يؤخذ بالحسبان حين التفكير بخيار البديل.
وهناك مثل آخر قد يلقي مزيداً الضوء على تلك الصورة.
ثمة جهود لتحويل شبكة "ستارلينك" للأقمار الاصطناعية إلى منظومة بديلة عن "جي بي أس". والأرجح أن ذلك يمثل انتقال القطاع الخاص الأميركي إلى أنشطة كانت حكراً على الدولة. ولا يصعب تصور المدى الاستراتيجي لتلك النقلة، في ظل الوضع الحالي لـ"ستارلينك" وخوضها في أمدية استراتيجية على غرار حربي أوكرانيا وغزة.