في هذا العصر الرقمي، حيث تتنافس الأفكار والمهارات، يشع "لينكد إن" كمنصة للمحترفين لعرض إنجازاتهم الثمينة. إذا قمت بزيارة الموقع مؤخراً، ربما لاحظت تغيراً في الأجواء. لم يعد مجرد مكان للبحث عن فرص عمل أو تحديث السير الذاتية، بل تحول إلى ملتقى يجمع بين الجدية والتلقائية، حيث يشاركك الأصدقاء فرحة إنجازاتك بحماس، وليسوا مجرد متفرجين على تقدمك المهني.
قد تكون استلمت عروض عمل مغرية من مسؤولي التوظيف، أو ربما أنت من يبادر بالتواصل مع محترفين في مجالك، مما يبعث الحياة في شبكتك المهنية. "لينكد إن" يتخطى الآن الصورة النمطية للأخ الأكبر المحافظ والمتزمت بالقواعد، ويقدم نفسه كمساحة تجمع بين الاحترافية والتواصل الحر، في توازن يجمع بين الصرامة والتلقائية، مثلما يجمع “إنستغرام” و"فايسبوك" بين الشخصي والعام.
من الإحتراف إلى العاطفة
لقد تغيرت ديناميكية المحتوى على "لينكد إن"، تجد المنشورات المختصرة قد أفسحت المجال لمقالات مفصلة يشارك فيها القادة والمتخصصون خبراتهم الحياتية بصدق وعاطفة. هذه السرديات تقدم لنا دروسًا قيمة في القيادة والأعمال. يتحدثون بجرأة عن تحدياتهم الشخصية، سواء كانت عائلية، صحية، أو حتى تربوية. يتم استخدام كل تجربة كفرصة لتقديم نصائح مهنية. وما يثير الدهشة هو أن هذه المحتويات تلقى تفاعلاً واسعًا وتجذب الكثير من التفاعلات والمشاركات. يظهر هذا التحول في "لينكد إن" إلى مرحلة قد تبدو محرجة للبعض. يطرح السؤال نفسه، كيف وصلنا إلى هذه النقطة، وهل أصبح الإفصاح الشخصي المفرط هو النهج الجديد في الاتصال المهني؟
منصة الشبكات المهنية ومرآة التحولات الاجتماعية
"لينكد إن"، المنصة الرائدة في مجال الشبكات المهنية، بدأت رحلتها في العام 2003، قبل ظهور فايسبوك" وحتى MySpace. وقد حافظت على هدفها الأساسي كمكان يتيح للمهنيين البحث عن فرص عمل وتسويق خبراتهم لأصحاب العمل المستقبليين. من وقت لآخر، قد تصادف بعض المنشورات التي يشارك فيها المستخدمون تجاربهم الشخصية مع تحدّيات العمل، ولكن هذه الحالات كانت نادرة وليست القاعدة. عادةً، كان هؤلاء المستخدمون أفرادًا من دائرتك المعروفة، وليسوا مدربين عشوائيين يظهرون في خلاصتك دون سابق إنذار. المستخدم العادي لـ"لينكد إن" كان يتصرف بطريقة مهذبة ومحترفة، مشابهة للطريقة التي قد تتحدث بها في اجتماعات العمل الرسمية، مستخدمًا لغة مهنية ومحسوبة.
الجائحة: تأثيرات وتجارب
في عصر جائحة كوفيد-19، تحولت أنماط العمل بشكل ملحوظ، إذ انتقل الكثير من الأشخاص إلى العمل من المنزل، مما أدى إلى امتزاج الحياة الشخصية بالمهنية. في اجتماعات الفيديو، لم يعد من غير المألوف سماع صوت الحيوانات الأليفة أو رؤية الأطفال يظهرون فجأة. ومع تأقلم الناس مع هذا الوضع الجديد، أصبحت مشاركة القصص الشخصية عبر الإنترنت وسيلة لإظهار الجانب الإنساني في العالم المهني. وقد واجه البعض تحديات مثل الفصل من العمل أو الشعور بعدم الأمان الوظيفي، وبدأوا في استخدام لينكد إن ليس فقط للبحث عن وظائف، بل للتعبير بصدق عن تجاربهم، آملين في جذب انتباه أرباب العمل.
كانت مشاركة المشاعر في العمل عبر الإنترنت أمرًا نادرًا، لكن مع تطور الجائحة، أدرك الناس أن مشاركة تجاربهم يمكن أن تعزز من مكانتهم على "لينكد إن". في عام 2021، أطلقت المنصة ميزة "المبدع"، التي انضم إليها 18 مليون مستخدم، وأصبحت المنشورات العاطفية مثل تلك التي شاركها الرئيس التنفيذي برادين والاك، الذي عبر عن حزنه لتسريح موظفيه، شائعة. وأصبحت هذه النوعية من المحتوى متداولة، حتى أن بعض المواقع بدأت في استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة قصص ملهمة. واستغل البعض الأحداث الثقافية الكبرى لكتابة مقالات حول العلامات التجارية الشخصية والتطوير الذاتي، مستوحين من شخصيات مثل تايلور سويفت وغاريث ساوثجيت.
ملتقى الحياة الشخصية والمهنية في عصر الشفافية
في ظل التحولات الجارية على منصة "لينكد إن"، نشهد تلاقي العوالم الشخصية والمهنية في مزيج فريد يعيد تعريف معنى المهنية. لقد تخطت المنشورات الحدود الراسخة لتشمل اللمسات الشخصية والعاطفية، مما يجسد تطور الأعراف الاجتماعية ويتناغم مع رغبات الجيل الجديد، ولا سيما "جيل زد"، الذي يعتنق الشفافية والتعبير الحر عن الذات ضمن الإطار المهني.
ماثيو سيانيلا، الخبير التسويقي، أثار جدلاً عندما كشف عن تجربته الشخصية بالطلاق عبر "لينكد إن"، مما فتح باب النقاش حول ما يناسب البيئة المهنية. هذا الحوار ألقى الضوء على السؤال الأزلي حول الفصل بين الحياة الشخصية والمهنية.
ومع ازدياد القصص الشخصية، برزت حسابات تنتقد بسخرية المبالغات على المنصة، كحساب جون هيكي، @BestOfLinkedIn، الذي استقطب جمهورًا بنقده اللاذع.
لينكد إن، بدورها، استجابت لهذه التغيرات بتحديث خوارزمياتها لتفضيل المحتوى الذي يثري المعرفة، محاولةً بذلك إرساء توازن بين الإنسانية والاحترافية. دانيال روث، رئيس التحرير، يعتبر هذا التوازن حجر الزاوية في الواقع الجديد للمنصة.
وفي نهاية المطاف، عثر ماثيو سيانيلا على السعادة مجددًا، حيث احتفل بزواجه وشارك الخبر مع متابعيه، معبرًا عن البعد الشخصي الذي بات يميز لينكد إن.
المؤثرون وتسويق الذات المهني
لقد أصبح تأثير المؤثرين على منصة "لينكد إن" جزءًا مهمًا من استراتيجيات التسويق الشخصي، مما يثير التساؤل حول ضرورة اعتماد هذه الطريقة في سوق العمل. هل يجب علينا تقديم قصص مثيرة لجذب انتباه الشركات؟ يُعتقد أن الشفافية والأصالة تُقدران بشكل متزايد في بيئة العمل الحديثة، ومع ذلك، يجب الحفاظ على توازن بين الصراحة والاحترافية. القصص الشخصية قد تكون ملفتة، ولكن الإفراط في الكشف عن الذات قد يؤدي إلى نتائج عكسية. من المهم التفكير بعناية في المحتوى المنشور على "لينكد إن" ، وقد يكون من المفيد تركه لفترة قبل النشر لضمان ملاءمته. في ظل التغيرات المستمرة في عالم الأعمال، يبقى السؤال: هل سيستمر هذا النهج في التسويق الشخصي على المدى الطويل أم أنه مجرد موضة عابرة؟
بين الخطوط
يعتبر الخبراء أن النجاح في منصة "لينكد إن" يتطلب تحقيق التوازن الدقيق بين الاحترافية والتعبير الشخصي. تظل المنصة مكانًا مفضلاً للمهنيين لعرض إنجازاتهم وتوسيع شبكاتهم الاجتماعية. ومع ذلك، من الضروري التفكير بعناية في المحتوى الذي يتم مشاركته. الأصالة والشفافية هما عنصران مهمان للتواصل الفعّال، ولكن يجب أن يتم ذلك مع الحفاظ على الاحترافية. يقع على عاتق كل فرد مسؤولية اختيار كيفية المشاركة بين القصص الملهمة والتجارب الشخصية، وتستمر "لينكد إن" في تقديم منصة للتعبير الفعّال والتواصل المهني.