خلال الأسبوع الفائت، كشفت منصة "بلوسكاي" لوالة "رويترز" عن ملاحظتها لزيادة ملحوظة في عدد المستخدمين الجدد من المملكة المتحدة. يرجع الخبراء سبب هذه الزيادة إلى التصريحات المثيرة للجدل التي أدلى بها إيلون ماسك بشأن الأحداث السياسية الراهنة، ما دفع الكثيرين للتفكير في اللجوء إلى بدائل عن منصة "إكس" . وفي هذا السياق، سنقوم بتسليط الضوء على منصة "بلوسكاي" في هذه المادة.
بزوغ "بلوسكاي" نحو اللامركزية
في يوم الرابع من تشرين الأول (أكتوبر) لعام 2021، كانت مدينة ويلمنغتون في ولاية ديلاوير في الولايات المتحدة ، مسرحًا لحدث هام، حيث تمّ الإعلان عن تأسيس "بلوسكاي"، المبادرة الطموحة التي تسعى لتطوير بروتوكول لشبكة اجتماعية لامركزية. تنبني رؤية المنصة على فكرة تمكين المستخدمين من إدارة بياناتهم وتفاعلاتهم الرقمية بشكل مستقل، ضمن إطار نظام بيئي يتجاوز الحدود التي تفرضها الشبكات المركزية الحالية.
بدايات مشروع "بلوسكاي" والدوافع الملهمة له
جاءت فكرة مشروع "بلوسكاي" كمبادرة من جاك دورسي في عام 2019، كان دورسي، المؤسس الشريك لمنصة "تويتر" والمدير التنفيذي السابق لها، يبحث عن طريقة لتحرير المحادثات العامة من القيود التي تفرضها الأنظمة المركزية السائدة في الفضاء الرقمي. ومن هذا المنطلق، تمّ طرح "بلوسكاي" كفكرة لتطوير بروتوكول لشبكة اجتماعية لا مركزية، وقد تمّ إطلاقها رسمياً في تشرين الأول (أكتوبر) 2021.
في حوار له مع "النهار العربي"، شرح أمين أبو يحيى، الخبير في مجال وسائل التواصل الاجتماعي من واشنطن، رؤيته لمنصة "بلوسكاي". فأكّد على أن الهدف من "بلوسكاي" هو إحداث ثورة في ديناميكيات وسائل التواصل بالتركيز على اللامركزية والشفافية، ما قد يغيّر جذرياً كيفية تفاعل الأفراد مع الشبكات الاجتماعية.
أضاف أبو يحيى، أن "بلوسكاي"، المبادرة التي أطلقها جاك دورسي، تقوم على مبدأ اللامركزية الذي يمنح المستخدمين سيطرة أكبر على بياناتهم. وعلى عكس النموذج التقليدي الذي يعتمد على خوادم مركزية تسيطر عليها شركات كبرى، تتيح "بلوسكاي" إدارة البيانات عبر شبكة موزعة من الخوادم يختارها المستخدمون ذاتياً.
التباين بين المركزية واللامركزية
تُدار الشبكات الاجتماعية التقليدية كـ "فايسبوك" و"تويتر" من قبل كيان مركزي يتحكّم في كل البيانات والعمليات، حيث تُخزّن البيانات في خوادم تابعة للشركة وتُعالج بشكل مركزي. هذا يسهّل على الشركات تحليل البيانات واستهداف الإعلانات، لكنه يثير مخاوف تتعلق بالخصوصية والرقابة.
في المقابل، يتميّز النموذج اللامركزي بتوزيع البيانات عبر شبكة من الخوادم المستقلة، ما يمنح المستخدمين سيطرة أكبر على معلوماتهم ويقلّل من الهيمنة المركزية. "ماستودون" Mastodon هو مثال على منصة لامركزية تتيح للمستخدمين اختيار الخادم الذي يرغبون في الانضمام إليه، والتواصل مع شبكة أوسع من المستخدمين من دون الخضوع لسيطرة شركة واحدة، ما يعزز الحرّية والخصوصية ويقلّل من مخاطر الرقابة.
التطور المستقل لـ "بلوسكاي" وبروتوكول "إيه تي" AT
بدأت "بلوسكاي" كمبادرة داخل "تويتر"، لكنها سرعان ما انفصلت لتصبح كيانًا مستقلًا. أثار هذا الانفصال جدلًا واسعًا، خصوصًا مع تبنّي "بلوسكاي" لمبادئ اللامركزية التي تتناقض مع النموذج التجاري لـ "تويتر". بروتوكول "إيه تي"، الذي طورته "بلوسكاي"، يشكّل العمود الفقري للمنصة، وهو مفتوح المصدر، ما يتيح للمستخدمين المشاركة والتأثير في النظام البيئي الرقمي.
يوضح أبو يحيى أن "بلوسكاي" تستخدم بروتوكول "إيه تي"، المعروف أيضًا بـ "بروتوكول النقل الموثق"، لتقديم منصة تواصل اجتماعي لامركزية. يسمح هذا البروتوكول للمستخدمين بالتحكّم الكامل في بياناتهم وخوارزمياتهم، ويمكنهم من إنشاء منصاتهم الاجتماعية الخاصة على خوادم مضيفة أو خوادمهم الشخصية. هذا النهج يعزز الخصوصية والأمان، ويسمح بإنشاء خوادم لاستضافة جزء من المنصة الاجتماعية مع تحديد قواعد الرقابة على المحتوى، ما يجعل "بلوسكاي" بديلًا قويًا للمنصات التقليدية.
الفرص والتحدّيات
بداية العام 2024 شهد تطبيق "بلوسكاي"، نموًا ملحوظًا في عدد المستخدمين، حيث أعلن عن تجاوزه حاجز المليوني مستخدم بعد عام واحد من إطلاقه. وفي خطوة لتعزيز هذا النمو، أتاح "بلوسكاي" التسجيل للجمهور العام، ما أدّى إلى زيادة قياسية في عدد المستخدمين، حيث استقبلت المنصة أكثر من مليون مستخدم جديد في يوم واحد. هذا الإقبال الكبير عكس الفضول والاهتمام المتزايد تجاه المنصة، خصوصاً بعد أن كان الانضمام إليها يقتصر على الحاصلين على دعوات فقط. وبهذا يبدو أن المنصة عازمة على توسيع قاعدته الجماهيرية وتحدّي منافسيه في سوق الشبكات الاجتماعية.
يشير أبو يحيى: "بأنّ المنصّة تحمل في طياتها إمكانيات وعقبات متميزة لكل من المستخدمين والمعلنين. تتميز بإتاحتها الفرصة لاستقطاب جمهور غير مستغل بعد عبر المنصات الأخرى، ما يفتح آفاقًا لتقديم محتوى مبتكر يجذب الانتباه ويزيد من التفاعل. ومع ذلك، تواجه تحدّيات تتمثل في قاعدتها الجماهيرية الأقل عددًا مقارنةً بالمنصات الأخرى، الأمر الذي قد يقلّل من فرص الوصول والتفاعل. كما أن المنافسة المحدودة للفت الأنظار قد تؤدي إلى تدني مستوى المحتوى المقدّم".
ويكمل أبو يحيى :" يبدو أن المستخدمين والمعلنين يمعنون النظر في هذه الفرص والتحدّيات، لتحديد مدى ملاءمة "بلوسكاي" لاحتياجاتهم".
تُعتبر المنافسة بين "إكس" و"بلوسكاي" موضوعًا شائكًا ومثيرًا للاهتمام، يبحث كثيرون عن بديل لـ" إكس" خصوصاً بعد التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ تولّيه الإدارة، والتي عكست تخبّطًا في الإدارة والقرارات، وأثارت الشكوك حول مستقبل المنصة. ومع ذلك تبقى منصة قوية بقاعدة مستخدمين كبيرة وتأثير واسع.
وبرأي أبو يحيى حتى الآن، لا يزال من المبكر الحكم بشكل قاطع على قدرة "بلوسكاي" على منافسة "إكس" بشكل كامل، حيث يعتمد ذلك على معايير مختلفة مثل عدد المستخدمين، التأثير، والاستقرار المالي. "بلوسكاي" تبدو واعدة وقد تكون بديلاً قويًا لـ"تويتر"، خصوصاً إذا استمرت المشاكل في"إكس" . ولكن، يجب أن ننتظر لنرى كيف ستتطور الأمور في المستقبل، وما إذا كان المستخدمون سينتقلون بالفعل إلى "بلوسكاي" أو يبقون مع " إكس" .
المسار الوعر نحو اللامركزية
"كانت استقالة جاك دورسي خلال شهر أيار (مايو) 2024، من "بلوسكاي" لحظة بارزة للمنصة وللنقاش الأكبر حول اللامركزية في الشبكات الاجتماعية. انتقاله لدعم Nostr، وهي منصة تتماشى أكثر مع تصوره لشبكة لامركزية، يُبرز الصراع بين الحفاظ على الفكر اللامركزي والحاجة إلى إدارة خدمة في تزايد.
شعر دورسي بأن "بلوسكاي" بدأت تبتعد عن مبادئها اللامركزية وتتجّه نحو أن تصبح مثل "تويتر"، الشركة التي ساعد في تأسيسها. ويبدو أن التحول نحو بنية شركاتية تقليدية، مثل إنشاء مجلس إدارة والبحث عن تمويل، يتعارض مع القيم اللامركزية التي كان يدافع عنها.
التحدّيات التي واجهتها "بلوسكاي" ليست استثنائية؛ فهي تظهر الحاجة إلى التوازن بين الحفاظ على مشروع لامركزي وتوسيعه في الوقت نفسه. قد تؤدي الحاجة إلى إدارة وتمويل وإلى إدخال عناصر تخالف الطبيعة اللامركزية لهذه المشاريع. ويُظهر تحول دورسي نحو Nostr التزامه بنموذج يبقى بعيدًا من تأثير الشركات ومخلصًا لفكرة البروتوكول المفتوح المصدر.
يمكن أن يكون هذا الوضع، إلى جانب دعم "بلوسكاي" وتأييد دورسي لـ Nostr، مثالًا للمشاريع اللامركزية الأخرى، موضحًا التحدّيات التي تواجه الحفاظ على الرؤية اللامركزية أثناء التعامل مع النمو والحوكمة. إنه يذكّرنا بأن الطريق نحو اللامركزية مليء بالعقبات، ولكنه أيضًا يفتح آفاقًا للابتكار وإعادة التفكير في كيفية عمل الشبكات الاجتماعية.