النهار

الصين تلفت الأنظار بتفاديها خضة "كراود سترايك"
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
يظهر نهج الصين أن العالم أمام "هدف مراوغ"
الصين تلفت الأنظار بتفاديها خضة "كراود سترايك"
أحد مكاتب شركة كراود سترايك (أ ب)
A+   A-

الخسائر فاقت مليار دولار. حين انهار قسم كبير من الأنظمة المعلوماتية حول العالم في 19 تموز (يوليو) الماضي، عادت البشرية لتكتشف بالطريقة الصعبة أن للاعتماد على العالم السحابي هشاشته الخاصة. المصارف والصحة والنقل والإعلام وغيرها من الخدمات الحيوية وقعت ضحية سوء تحديث كانت "كراود سترايك"، شركة أميركية بارزة للأمن السيبراني ومقرها تكساس، تدخله على نسخ من برامج "ويندوز".

 

تأثر بذلك نحو 8.5 مليون جهاز يعمل على نظام "ويندوز"، لكن أعداد المتضررين بشكل غير مباشر كانت أوسع بكثير. بحسب موقع "إنتيروس"، طال التوقف أكثر من 674 ألف زبون على علاقة مباشرة مع "كراود سترايك" وطال أكثر من 49 مليون شخص بطريقة ارتدادية. كانت الولايات المتحدة الدولة الأكثر تأثراً بما حدث مع 41 في المئة من الكيانات التي طالتها آثار انهيار عمل الحواسيب. وتأتي نصف أرباح الشركة من الولايات المتحدة. خسر سهم كراود سترايك نحو 18 في المئة من قيمته منذ الجمعة، بعدما ارتفعت قيمته أكثر من 110 في المئة خلال عام.

 

بالكاد تأثرت

في ظل التوترات الجيوسياسية المعاصرة، يكاد ذكر الولايات المتحدة يقترن دائماً بذكر الصين عند كل حدث ذي تداعيات عالمية. ما حصل مع "كراود سترايك" مثل على ذلك. حين كان الغرب يعاين الأضرار اللاحقة بشركاته، بدت الصين شبه معزولة عما حدث. في مقابل ملايين الأجهزة العاملة على نظام "ويندوز" حول العالم، لم يكن هناك سوى "عشرات الآلاف" من الحواسيب التي تستند إلى هذا النظام داخل الصين. تسرّع الأخيرة تطوير بنيتها التحتية الرقمية المنفصلة عن الغرب بعد سياسات "فك الارتباط" بينهما. يطال "فك الارتباط" هذا عالم الإنترنت حتى بات بالإمكان الحديث عن "سبلنترنت" أو الشبكة المتشظية.

 

لقد أنشأت الصين شركاتها التكنولوجية الخاصة مقابل كل الشركات الأميركية البارزة مثل "غوغل" و"فيسبوك" و"أمازون" وغيرها. على سبيل المثال، وفي مقابل "كراود سترايك" الأميركية، تملك الصين "360 سكيوريتي تكنولوجي". ولم تكن الأخيرة لتفوت ما حدث الجمعة من أجل تسليط الضوء على ما تراه تفوقاً لخدماتها على تلك التي تقدمها الشركة الأميركية. ففي بيان على وسائل التواصل الاجتماعي، وصفت الشركة الصينية التكنولوجيا الخاصة بها على أنها "أكثر موثوقية واستقراراً وشمولية وذكاء".

 

مكسب موقت؟

في سباقها المتشعب مع الولايات المتحدة، ربما حققت الصين مكسباً إعلامياً يوم الجمعة. لكنه على الأرجح مكسب محدود. من جهة، قليلة هي الشركات التي ستوقف العمل مع "كراود سترايك" بحسب أكثر من تقرير. ثمة سبب وجيه منح تلك الشركة الصدارة في حجم التعاملات مع الزبائن حول العالم وهو صلابتها. كذلك، كانت الشركة سريعة نسبياً في إصلاح الخطأ كما في الإبلاغ عنه. علاوة على ذلك، وربما هنا بيت القصيد، حصل العطل بسبب تحديث خاطئ، لا بسبب قرصنة أو هجوم سيبراني خبيث، وهذا ما يريح الزبائن بشكل أو بآخر.

 

حتى لو تأثرت "كراود سترايك" سلباً على مستوى خسارة بعض العملاء، من المرجح أن تمثل شركتان أخريان في كاليفورنيا ("بالو ألتو نتووركس" و"سنتينل وان") الوجهة الجديدة للممتعضين. وما لفت النظر أيضاً أن الذهب الذي يعد "ملاذاً آمناً" شهد تراجعاً بعد الانهيار المعلوماتي الموقت، بينما سجل الدولار بعض المكاسب. لكن على الرغم من أن مشكلة "كراود سترايك" الفنية لن تترك تداعيات جيوسياسية على المدى القريب والمتوسط، هي ستثير بعض الأسئلة على الأقل بالنسبة إلى المستقبل البعيد.

 

من جهة، قد يستغرق إصلاح كامل الأضرار التي نجمت عن حادث يوم الجمعة بضعة أسابيع إضافية وهي إشارة إلى صعوبة تخطي الأعطال السيبرانية حتى ولو كانت موقتة. وقد لا تكون كل الأضرار مغطاة حتى بشركات التأمين. بصرف النظر عن قوة الخدمات التي تقدمها "كراود سترايك" أو أي شركة أخرى، وبما أن الأعطال والحوادث في العالم السحابي أمر وارد كما يقول الخبراء، سيطرأ شك أساسي في فائدة الاعتماد على شركة واحدة للأمن السيبراني. ربما أتى أو يأتي وقت التفكير في تنويع مصادر الأمن السحابي. وهذا ما قد يعيد صناع القرار إلى التجربة الصينية في هذا المجال.

 

"قيمة استراتيجية"

بحسب موقع "كلاود كومبيوتينغ"، أظهر الانهيار يوم الجمعة "القيمة الاستراتيجية لنهج الصين". فالاستقلالية التكنولوجية "توفر درجة من الأمن والاستقرار في حقبة من التوترات الجيوسياسية ونقاط الضعف السيبرانية". وينصح التقرير المؤسسات بالتفكير في "استراتيجيات السحابة المتعددة والبدائل المفتوحة المصدر والنسخ الاحتياطي المنتظم بدون اتصال بالإنترنت".

 

وأشاد آخرون بتعامل الصين مع الأمن السحابي واصفين إياه بـ "الاستراتيجي". هذا ما قاله مثلاً الخبير في الأمن السيبراني المقيم في سنغافورة جوش كينيدي وايت لـ "بي بي سي". وأشار إلى أن مايكروسوفت تعمل في الصين من خلال شريك محلي لها (21 فيانيت) وهو يدير خدماته بشكل مستقل عن البنية التحتية العالمية للشركة الأم مما يعزل خدماتها الأساسية مثل الصيرفة والطيران عن الاضطرابات الدولية. لكن حتى هذا النهج لا يخلو من المخاطر أو السلبيات.

 

الهدف المراوغ

تبقى كلمة "عزل" نسبية، لأن بإمكان جميع شركات تطوير البرمجيات ارتكاب الأخطاء على ما يقوله الرئيس المؤسس لـ "جمعية هونغ كونغ الصين لأمن الشبكة" ديفيد إيپ شينغ-يونغ لصحيفة "ساوث شاينا مورنينغ بوست". وبحسب تقرير "كلاود كومبيوتينغ" نفسه، يمكن أن يؤدي الإصرار على العزلة إلى تفويت فرص الابتكار التي يوفرها الانفتاح على الغرب، كما إلى فشل الشركات الصينية في كسب سوق أجنبية واسعة.

 

تعيد حادثة "كراود سترايك" التذكير بمدى صعوبة إيجاد التوازن المراوغ في العالم السحابي بين الأمن والربحية. هذا المسعى الدؤوب نحو التوازن أساسي لتحقيق تطور مستقر للمجتمعات البشرية. فكما كتب ماتيو وونغ في مجلة "أتلانتيك" الأميركية، "بات أوضح من ذي قبل أن الإنترنت ليس مجرد تراكم يطفو فوق الحضارة الحديثة، بل الأرض التي بنيت عليها".

 

 

اقرأ في النهار Premium