الأرجح أن هنالك شكاوى عامة ومستمرة منذ زمن طويل، عن عدم دقة التنبؤ بأحوال الطقس. وفي معظم الأحيان، يكتفي جمهور متنوع بالتذمّر وإطلاق النكات، بل إن وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر، حين كان في أوّج صعوده، تمنّى لو أنه يستطيع التنؤ في السياسة بمقدار ما يفعل مقدّمو النشرات الجوية، مع العلم أن الوسائل العلمية لتوقع الطقس كانت آنذاك أدنى من مستواها الآن، ما يوضح حسّ الفكاهة في كلمات كيسنجر.
وليس العلماء ببعيدين عن تلك الأجواء! ولكن لتذمّرهم أشكالاً اخرى، ويكفي القول إنّ "نظرية الفوضى" في الرياضيات والفيزياء (وليس في السياسة)ـ بدأت من الطقس وتقلّباته، بل إن التعبير العلمي عنها هو "نظرية اللامتوقع" Science of the Unpredictable، لكنها راجت بتسمية الفوضى Chaos التي، وللمفارقة، تجد تطبيقات هائلة العدد في تقنيات المعلوماتية والاتصالات المتطورة.
وفي سياق التقدّم العلمي في وسائل توقع الطقس وتقلباته، يبرز بشدة ذلك الإعلان المهمّ الذي صدر أخيراً عن نقلة نوعية في رصد التقلّبات الجوية، بل إنه شكَّل نقلة نوعية في العلاقة بين الذكاء الاصطناعي التوليدي والأرصاد الجوية. فقد طوّر فريق من خبراء الذكاء الاصطناعي التوليدي في "غوغل" والمركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى" European Centre for Medium- Range Weather (ECMWF)، نظاماً جديداً يُعرف بـ"نيورال جي سي أي أم" NeuralGCM، يدمج بين رصد الدورة الجوية المستندة على الفيزياء وبين معطيات من الذكاء التوليدي، خصوصاً تعليم الآلات التي تتعلق بالمؤثرات الجوية المتنوعة.
يتميّز النظام بكفاءته الحسابية العالية. وقد أظهر أداءً متميزًا في معايير التنبؤ بالطقس. وما يثير الدهشة هو قدرته على إنتاج نتائج معقولة المظهر لسجلات جوية تغطّي عقودًا من الزمن، ما يتيح لها القدرة على التعامل مع بعض الأسئلة ذات الصلة بالمناخ.
وعلى الرغم من أن النظام الجديد لا يستطيع التعامل مع كل الأمور التي تُستخدم من أجلها نماذج المناخ، إلّا أنّ هناك بعض الطرق الواضحة للتحسينات المحتملة في المستقبل.
تعرّف على NeuralGCM
نظام فريد يجمع بين نهجين مختلفين للتنبؤ بالطقس. الجزء الأول من النظام، المُشار إليه باسم "النواة الديناميكية"، مسؤول عن التعامل مع فيزياء انتقال الحرارة في الغلاف الجوي على نطاق واسع. ويشمل ذلك مراعاة المبادئ الأساسية للفيزياء مثل الجاذبية والديناميكية الحرارية.
ويعمل الجزء الثاني من النظام بالذكاء الاصطناعي التوليدي، خصوصاً تقنية تعلُّم الآلات Machine Learning. ويتولّى المسؤولية عن كل شيء لا تغطيه معادلات الفيزياء التقليدية عن الحرارة والسوائل، مع التذكير بالكميات الهائلة من المياه في الغلاف الجوي والمتفاعلة مع كل المسطحات المائية على الأرض كالأنهار والبحار والمحيطات والبحيرات وغيرها.
ووفق ما أوضح ستيفان هوير من "غوغل"، يتعامل الجزء الثاني من النظام مع جوانب مثل السحب وهطول الأمطار والإشعاع الشمسي والسحب عبر سطح الأرض وغيرها.
ويتميز هذا النظام الجديد عن الأنظمة الذكية الأخرى في رصد الطقس (وهي تستعين أيضاً بتقنيات تقليدية في الذكاء الاصطناعي)، وتدريبه يجري بشكل متكامل، بمعنى أن النظام كله يتدرب مع بعضه بعضاً في وقت واحد. وهذا يعني أن الذكاء التوليدي يتدرّب بشكل منفصل عن علوم الفيزياء التقليدية المتعلقة بالطقس، خصوصاً معادلات الحركة الميكانيكية للسوائل وتلك المتعلقة بالحرارة.
وفي بداية العمل على النموذج الجديد، دُرِّبَتْ الشبكات العصبية الاصطناعية (التي هي أساس تعلُّم الآلات) على توقعات للطقس تغطي فترات مدتها 6 ساعات، لأن النظام لم يكن مستقرًا تماماً كي يتدرّب لوقت أطول. وبعد فترة زمنية، جرى تمديد هذه الفواصل الزمنية إلى 5 أيام.
من حيث الأداء، يتفوق النظام على أفضل النماذج المستخدمة حاضراً، في ما يتعلق بالتنبؤات التي تصل إلى 10 أيام، وذلك بفضل اعتماده على مقاسات فائقة الدقة.
بالنسبة للتنبؤات الأطول، فإنه يميل إلى إنتاج ميزات أقل ضبابية من تلك التي يصنعها المتنبئون بالذكاء التوليدي الخالص، على الرغم من أنه يعمل بدقة أقل من تلك التي يعملون بها.
ومع ذلك، فإن النظام له حدوده. ومثلاً، يميل النظام "المزدوج" الجديد إلى التقليل من تقدير الحوادث المتطرّفة التي تُشاهد في المناطق الاستوائية. بالإضافة إلى ذلك، فهو لا يقوم فعليًا بنمذجة هطول الأمطار، بدلاً من ذلك، يحسب التوازن بين التبخّر وهطول الأمطار.
أفضل لكن عيوبه كثيرة أيضاً
وعلى الرغم من هذه القيود، يتمتع النموذج ببعض المزايا المُحدّدة مقارنة بنماذج التنبؤ الأخرى قصيرة الأجل. ومن بين المزايا الرئيسية أنه لا يقتصر في الواقع على العمل على المدى القصير. فقد سمح الباحثون له بصنع توقعات لمدة تصل إلى عامين، وقد نجح في إعادة إنتاج دورة موسمية معقولة المظهر، بما في ذلك السمات واسعة النطاق للدورة الجوية.
كما اختبر الباحثون النموذج مع ارتفاع درجات حرارة سطح البحر، وهو تأثير مرحلي في تغيّر المناخ. وقد تعامل النموذج "المزدوج" مع كميات معتدلة من الاحتباس الحراري بشكل جيد، ولكنه واجه صعوبة في التعامل مع الدرجات الأعلى في تلك الظاهرة.
ويعتبر الباحثون أن النظام يُشكّل تقدّماً ملحوظاً في مجال التنبؤ بالطقس، ولكنه لا يُعتبر حلاً شاملاً لنمذجة المناخ. ما يتوافق مع رأي ستيفان هوير من "غوغل" وجافين شميدت من "ناسا" على أن الطريق للأمام قد يتضمن استبدال الذكاء الاصطناعي التوليدي المتجانس في نموذج NeuralGCM بوحدات فردية تركّز على عمليات مناخية متنوعة. ويقترحون أيضاً توسيع الجزء غير المرتبط بالذكاء الاصطناعي التوليدي في الشيفرة الأساسية للنظام، بهدف الحفاظ على الطاقة وتحقيق عمليات أرضية ومحيطية معقولة، رغم القيود الموجودة.
وأخيراً، يتميز نظام "نيورال جي سي أم" بقدرته العالية على استخدام بيانات الطقس التي جرى تدريبه عليها، في وضع تنبؤات معقولة ومرحلية عن الطقس.