في أقل من 48 ساعة، هبطت أسهم البورصات الأميركية كلها، وتبعتها الأسواق العالمية المرتجفة هلعاً. وفقدت الشركات الكبرى في التكنولوجيات الذكية والشرائح الإلكترونية قرابة تريليون دولار في 24 ساعة.
واندفعت إلى وسائط الإعلام كله عناوين تدور حول "انفجار فقّاعة الذكاء الاصطناعي"، خصوصاً أن الهبوط أعقب إعلانات من شركة "إنفيديا" عن خسائر، ومن "انتل" عن تسريح موظفين وإغلاق وظائف، ومن محلّلي الأسواق عن عدم تحقيق الذكاء الاصطناعي وعوده بتحقيق فيوض من الأرباح وغيرها.
فقدان الصبر لتحقيق أرباح خرافية
منذ انطلاق رحلة "شات جات بي تي" في عالم الذكاء التوليدي، أعلنت الشركات التقنيّة الكبرى أن هذه التكنولوجيا على أعتاب إحداث ثورة في كل قطاع. وقد استخدمت هذه الوعود كدافع لإنفاق مليارات الدولارات على مراكز البيانات والشرائح الإلكترونية اللازمة لتشغيل النماذج الكبيرة للذكاء التوليدي. ولكن، عند المقارنة بتلك الرؤية الطموحة، يبدو أن المنتجات التي تمّ إطلاقها حتّى الآن لا تعدو كونها غير مهمّة نسبيًا، بدءًا من روبوتات المحادثة التي لا تزال بحاجة إلى وضع استراتيجية واضحة لتحقيق الأرباح، وصولاً إلى تدابير توفير التكلفة مثل البرمجة الذكيّة وخدمة العملاء، والبحث المدعوم بالذكاء التوليدي الذي يبدو أنه يخترع الأشياء بين الحين والآخر.
ومع ذلك، لا تزال الشركات تواجه تحدّيًا كبيرًا في تحقيق العائد المرجو على الاستثمارات الضخمة التي أنفقتها في هذا الميدان، سواء من خلال زيادة الإيرادات أو من خلال إطلاق منتجات جديدة تحقق أرباحًا. وبدأ المستثمرون في الشعور بالقلق بشأن هذا الوضع.
هبوط حاد في الأسهم
لقد شهدت الأسواق تقلّبات ملحوظة. وعانت شركة "إنفيديا"، الرائدة في مجال رقاقات الذكاء التوليدي من تراجع في السوق، وانخفض سهم الشركة بمقدار أكثر من 20% منذ أن بلغ ذروته في منتصف حزيران (يونيو)، مع مؤشرات إلى إمكانية مراوحته في مستويات الهبوط لفترة معينة.
من ناحية أخرى، تواجه "أمازون" تحدّيات خاصة بها. في مطلع الشهر الجاري، انخفضت أسهم "أمازون" بقرابة 9%، فتحركت مخاوف كثيرة مردّها أن تلك الشركة لها استثمارات كبيرة في الذكاء التوليدي، لكنها لم تحصد منها الأرباح المأمولة. والتي لم تُترجم بعد إلى عائدات ملموسة.
وفي الوقت نفسه، عانت "إنتل" من تراجع حاد في سعر أسهمها لامس الـ25%. بعد الإنفاق الكبير للتكيّف مع موجة الذكاء التوليدي، تسعى الشركة الآن للسيطرة على الأمور من خلال خفض التكاليف بمقدار 10 مليارات دولار وتسريح عشرات الآلاف من العمال. ما تشكّل صورة واضحة للتحدّيات التي تواجه الشركات الكبرى في مجال الذكاء التوليدي.
الدوران: عودة الشركات الصغيرة
وفي الوقت عينه، تعود الشركات الصغيرة التي كانت مُهمّشة ومحرومة من الاحترام إلى الصدارة. مؤشر راسل 2000، الذي يقيس أداء 2000 سهم صغير في السوق الأميركية، قد شهد ارتفاعًا بنسبة 12% خلال الفترة نفسها.
هذه الظاهرة تُعرف بـ"الدوران". بدلاً من الهروب الجماعي للأموال من السوق، نلاحظ أن الأموال تتحول من قطاع إلى آخر. تنتقل من الشركات الكبرى في مجال التكنولوجيا التي تتمّيز بأسعارها الباهظة وقدرتها على النمو، إلى الأسهم الصغيرة الرخيصة التي تتمتع بقيمة عالية.
الذكاء الاصطناعي بوصفه تحولاً لا فقاعة
في مذكرة بحثية مثيرة للاهتمام من فنسنت ديلوارد، المحلّل المالي في شركة StoneX العالمية، تبرز مقارنته بين الأوضاع الحالية للذكاء الاصطناعي و"انفجار فقاعة الدوت كوم" في مستهل القرن الجاري. ويشير إلى أن الظروف الاقتصادية في صيف 2000، حيث تباطأ الاقتصاد الأميركي وتحوّلت الأموال من الشركات التكنولوجية الرائدة إلى الشركات القيّمة، تشابهت بشكل كبير مع الظروف الحالية.
يذكر ديلوارد أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهد ركوداً ضحلاً ولكنه ملحوظ، مصحوباً بتخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي. ومع ذلك، يقترح ديلوارد أن هناك ثلاثة اختلافات رئيسية بين تلك الفترة والوقت الحالي، والتي قد تعني أننا قد لا نشهد نفس الركود أو التخفيضات أو حتى نفس نطاق سوق الهبوط.
أولاً، يشير ديلوارد إلى أن الركود وتخفيضات أسعار الفائدة كانت مدفوعة بشكل كبير بالهجمات الإرهابية التي وقعت في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والتي يأمل أن تكون حادثة فريدة من نوعها. من دون تلك الهجمات، يقترح أن الركود قد يكون أكثر هدوءاً وأن تخفيضات أسعار الفائدة قد لا تكون عميقة للغاية.
ثانياً، يشير إلى أن السياسة المالية الحالية أكثر تحفيزاً بكثير مما كانت عليه في زمن انفجار فقاعة الدوت كوم. وفكرة أن تحقق حكومة اقتصاد متقدّم فائضاً في موازنتها تبدو غير ممكنة اليوم، ولكن هذا بالضبط ما كانت الولايات المتحدة تفعله في مطلع القرن الجاري. وبالتالي، فإن الإنفاق الحكومي اليوم يعمل كوسادة ضدّ التأثير المحتمل لأي فقاعة ذكاء اصطناعي تنفجر.
ثالثاً، يشير ديلوارد إلى الصعود الحالي للاستثمار السلبي، وكيف قد يؤدي ذلك إلى خنق نطاق أي تصحيح في السوق. هذه النقطة قد تكون الأكثر إثارة للاهتمام، وقد تشير إلى قضايا هيكلية أعمق في أسواقنا.
الذكاء التوليدي ليس مجرد تكنولوجيا جديدة، بل يُمثّل تحوّلًا جذريًا في الطريقة التي نفكر فيها ونتعامل مع البيانات والمعلومات. لذا، قد يكون من الصعب تحديد القيمة الحقيقية للاستثمارات في الذكاء التوليدي حتى نرى النتائج الكاملة لهذا التحوّل.
قد يكون السؤال الأهم، هو ما إذا كانت الشركات التقنية الكبرى قادرة على تحقيق التوازن بين هذه المتطلبات المُتعارضة. هل ستتمكن من الاستثمار في الذكاء التوليدي بما يكفي للحفاظ على موقعها الرائد، بينما تحقّق عوائد ترضي المستثمرين؟ هل أنها ستجد نفسها تتخلّى عنه ، مثلما فعلت مع "انفجار فقّاعة الدوت كوم"، وتنتقل إلى الشيء الكبير التالي؟ الوقت وحده سيخبر عن ذلك.